كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات، فهو مكذب، كما أن لكل مدع ما لم يأت بدليل فهو مبطل، وكذلك قوله تعالى: * (وهي تجري بهم في موج كالجبال) * فإنه تعالى سمى حركة السفينة جريا، وحركة السفينة اضطرارية، وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء، فهو خالق الأسماء والمسميات كلها، حاشاه لا إله إلا هو وأما قوله تعالى: * (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) * فإنما عن تعالى حب العجل، على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه، وأما قول تعالى: * (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) * وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها.
وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *.
قال علي: وهذا أيضا عندنا على الحقيقة، وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيرها، فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الأمانة سلبها إياه، وسقطت الكلف عنها، وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضا، والمراد بذلك أنها لم يحملها إذا لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل، ولا النفس المختارة المميزة.
وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها، فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح: أبى ذلك سؤددك، وإذا أرادت الذم: أبى ذلك لؤمك، أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له، وكذلك في الذم أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له، فعلى هذا كانت إباية السماوات والأرض لا على ما سواه إلا أن الأول أصح وبه نقول.
وإنما فرقنا بين هذا في هذا الوجه، وبين ما قلنا آنفا في إنطاق جهنم، لان كلام الله عز وجل كله عندنا بيان لنا، وجار على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا، وإنما قلنا ذلك لقول الله عز وجل: * (وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) * وحضنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن، وأخبرنا بأنه بيان لنا، وكل ذلك يكون إلا بما تميزه عقولنا، لا بما يضادها، فلما صح ذلك كله، وأدانا التدبير والبصر والسمع والعقل إلى أن السماوات جمادات لا تعقل، وأن الأرض كذلك، وأن حد النطق هو التمييز للأشياء، وأن التمييز لا يكون إلا