ذكرا آخر، وهو قوله * (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) * (المؤمنون: 29) وتحقيق القول فيه أن الدابة التي يركبها الإنسان، لا بد وأن تكون أكثر قوة من الإنسان بكثير، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان، ولكنه سبحانه خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وفي خلقها الباطن يحصل منها هذا الانتفاع، أما خلقها الظاهر: فلأنها تمشي على أربع قوائم، فكان ظاهرها كالموضع الذي يحسن استقرار الإنسان عليه، وأما خلقها الباطن، فلأنها مع قوتها الشديدة قد خلقها الله سبحانه بحث تصير منقادة للإنسان ومسخرة له، فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب وغاص بعقله في بحار هذه الأسرار، عظم تعجبه من تلك القدرة القاهرة والحكمة غير المتناهية، فلا بد وأن يقول * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) * قال أبو عبيدة: فلان مقرن لفلان، أي ضابط له. قال الواحدي: وكان اشتقاقه من قولك ضرب له قرنا، ومعن أنا قرن لفلان، أي مثاله في الشدة، فكان المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها ، فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته، روى صاحب " الكشاف ": عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا وضع رجليه في الركاب قال: " بسم الله، فإذا استوى على الدابة، قال الحمد لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا، إلى قوله لمنقلبون " وروى القاضي في " تفسيره ": عن أبي مخلد أن الحسن بن علي عليهما السلام: رأى رجلا ركب دابة، فقال سبحان الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول: سبحان الذي سخر لنا هذا، وروي أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه كان إذا سافر وركب راحلته، كبر ثلاثا، ثم يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا، ثم قال: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا السفر واطو عنا بعد الأرض، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة على الأهل، اللهم أصحبنا في سفرنا، وأخلفنا في أهلنا " وكان إذا رجع إلى أهله يقول " آيبون تائبون، لربنا حامدون " قال صاحب " الكشاف ": دلت هذه الآية على خلاف قول المجبرة من وجوه الأول: أنه تعالى قال: * (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم) * فذكره بلام كي، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منا هذا الفعل، وهذا يدل على بطلان قولهم أنه تعالى أراد الكفر منه، وأراد الإصرار على الإنكار الثاني: أن قوله * (لتستووا) * يدل على أن فعله معلل بالأغراض الثالث: أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر على العبد، فلو كان فعل العبد فعلا لله تعالى، لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات لأجل أن أخلق سبحان الله في لسان العبد: وهذا باطل، لأنه تعالى قارد على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسايط.
واعلم أن الكلام على هذه الوجوه معلوم، فلا فائدة في الإعادة.