إلا به، وأما بيان أن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران: أحدهما: أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم، والثاني: أن ذلك الأمر الحكيم مخصوصا بشرف أنه إنما يطهر من عنده، وإليه الإشارة بقوله * (أمرا من عندنا) *.
وأما النوع الثالث: فهو بيان شرف القرآن لشرف منزله وذلك هو قوله * (إنا كنا مرسلين) * فبين أن ذلك الإنذار والإرسال إنما حصل من الله تعالى، ثم بين أن ذلك الإرسال إنما كان لأجل تكميل الرحمة وهو قوله * (رحمة من ربك) * وكان الواجب أن يقال رحمة منا إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، ثم بين أن تلك الرحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين لأنه تعالى يسمع تضرعاتهم، ويعلم أنواع حاجاتهم، فلهذا قال: * (إنه هو السميع العليم) * فهذا ما خطر بالبال في كيفية تعلق بعض هذه الآيات ببعض.
المسألة الثامنة: في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أما قوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * فقد قيل فيه إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في هذه الليلة، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف، وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبرائيل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
أما قوله تعالى: * (فيها يفرق) * أي في تلك الليلة المباركة يفرق أي يفصل ويبين من قوله فرقت الشيء أفرقه فرقا وفرقانا، قال صاحب " الكشاف " وقرئ يفرق بالتشديد ويفرق على إسناد الفعل إلى الفاعل ونصل كل والفارق هو الله عز وجل، وقرأ زيد بن علي نفرق بالنون.
أما قوله * (كل أمر حكيم) * فالحكيم معناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى، فما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة، وهذا من الإسناد بالمجازي، لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجاز، ثم قال: * (أمرا من عندنا) * وفي انتصاب قوله * (أمرا) * وجهان: الأول: أنه نصب على الاختصاص، وذلك أنه تعالى بين شرف تلك الأقضية والأحكام بسبب أن وصفها بكونها حكيمة، ثم زاد في بين شرفها بأن قال أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كائنا من لدنا، وكما اقتضه علمنا وتدبيرنا والثاني: أنه نصب على الحال وفيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون حال من أحد الضميرين في * (أنزلناه) *، إما من ضمير الفاعل أي: إنا أنزلناه آمرين أمرا أو من ضمير المفعول أي: إنا أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل والثالث: ما حكاه أبو علي الفارسي عن أبي الحسن رحمهما الله أنه حمل قوله * (أمرا) * على الحال وذو الحال قوله * (كل أمر حكيم) * وهو نكرا.