على الله تعالى، فأنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسما وفي جهة محال، وأيضا فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه، لأن قوله * (ذو العرش) * لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكا له ومخرجا له من العدم إلى الوجود، فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام، والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته، فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم، كانت دلالته على كمال القدرة أقوى.
الصفة الثانية: قوله * (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) * وفيه مباحث:
البحث الأول: اختلفوا في المراد بهذا الروح، والصحيح أن المراد هو الوحي، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) وقال أيضا: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الانعام: 122) وحاصل الكلام فيه: أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية، فإذا كان الوحي سببا لحصول هذه الأرواح سمي بالروح، فإن الروح سبب لحصول الحياة، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضدا للعقل، فههنا أيضا كذلك، فقوله * (رفيع الدرجات) * إما أن يكون بمعنى كونه رافعا للدرجات، وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على اختلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها، أو إلى كونه تعالى مرتفعا في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات، فهذا الكلام عقلي برهاني، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير، وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وإما روحانيات، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى، أما الجسمانيات فأعظمها العرش، فقوله * (ذو العرض) * يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكدا لذلك العقول، أعني قوله * (رفيع الدرجات) * وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه، وإليه الإشارة بقوله * (يلقي الروح من أمره) *.
واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي إنما يتم بأركان أربعة فأولها: المرسل وهو الله سبحانه وتعالى، فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال: * (يلقي الروح) * والركن الثاني: الإرسال والوحي وهو الذي سماه بالروح والركن الثالث: أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله * (من أمره) * فالركن الروحاني يسمى أمرا، قال تعالى: