واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله: المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب، وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال، ولا يتأوله على المحكم الذي بينه الله تعالى بقوله * (وأضلهم السامري) * (طه: 85) * (وأضل فرعون قومه وما هدى) * (طه: 79) * (وما يضل به إلا الفاسقين) * (البقرة: 26) وفسروا أيضا قوله * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * (الإسراء: 16) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم، وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) * (ويريد الله ليبين لكم ويهديكم) * (النساء: 26) وتأولوا قوله تعالى: * (زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) * (النمل: 4) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * (الرعد: 11) * (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) * (القصص: 59) وقال: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * (فصلت: 17) وقال: * (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) * (يونس: 108) وقال: * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) * (الحجرات: 7) فكيف يزين النعمة؟ فهذا ما قاله أبو مسلم، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات، وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات؟ ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر؟ ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة، فإذا دل على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح، وذلك تصريح بنفي الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص، وذلك نفي للصانع، ولزم منه أيضا أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالما وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالما، ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة.
وأما المحقق المنصف، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية، فذاك هو المحكم حقا وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل