الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول: لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط، الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا.
أما قوله تعالى: * (حقا على المتقين) * فزيادة في توكيد وجوبه، فقوله: * (حقا) * مصدر مؤكد، أي حق ذلك حقا، فإن قيل: ظاهر هذا الكلام يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم.
فالجواب: من وجهين الأول: أن المراد بقوله: * (حقا على المتقين) * أنه لازم لمن آثر التقوى، وتحراه وجعله طريقة له ومذهبا فيدخل الكل فيه الثاني: أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين، وغيرهم، فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف؛ فهذا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الآية.
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه الوصية، منهم من قال: كانت واجبة ومنهم من قال: كانت ندبا واحتج الأولون بقوله: * (كتب) * وبقوله: * (عليكم) * وكلا اللفظين ينبئ عن الوجوب، ثم إنه تعالى أكد ذلك الإيجاب بقوله: * (حقا على المتقين) * وهؤلاء اختلفوا منهم من قال هذه الآية صارت منسوخة، ومنهم من قال إنها ما صارت منسوخة، وهذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني، وتقرير قوله من وجوه أحدها: أن هذه الآية ما هي مخالفة لآية المواريث ومعناها كتب عليكم ما أوصى به الله تعالى من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (النساء: 11) أو كتب على المختصر أن يوصيكم للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصباتهم وثانيها: أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين وثالثها: لو قدرنا حصول المنافاة لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية وذلك لأن هذه الآية توجب الوصية للأقربين، ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثا داخلا تحت هذه الآية، وذلك لأن من الوالدين من يرث، ومنهم من لا يرث، وذلك بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة من لا يرث بهذه الأسباب الحاجبة ومنهم من يسقط في حال ويثبت في حال، إذا كان في الواقعة من هو أولى بالميراث منهم، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم فكل من كان من هؤلاء وارثا لم يجز الوصية له، ومن لم يكن وارثا