والقول الثاني: وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير، واحتجوا عليه بوجوه الأول: أن من ترك درهما لا يقال: إنه ترك خيرا، كما يقال: فلان ذو مال، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير، وكذلك إذا قيل: فلان في نعمة، وفي رفاهية من العيش. فإنما يراد به تكثير النعمة، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه، كما قد روي من قوله: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " وقوله: " ليس بمؤمن من باب شبعانا وجاره جائع " ونحو هذا.
الحجة الثالثة: لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك، سواء كان قليلا، أو كثيرا، لما كان التقييد بقوله: * (إن ترك خيرا) * كلاما مفيدا، لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئا ما، قليلا كان أو كثيرا، أما الذي يموت عريانا ولا يبقى معه كسرة خبر، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته، فذاك في غاية الندرة، فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان:
القول الأول: أنه مقدر بمقدار معين، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أولا أوصي، قال لها: لا إنما قال الله تعالى: * (إن ترك خيرا) * وليس لك كثير مال، وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال أربعة قالت: قال الله * (إن ترك خير) * وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل، وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم، وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم.
والقول الثاني: أنه غير مقدر بمقدار معين. بل يختلف دلك باختلاف حال الرجال، لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغني لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة، ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقا بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها.
أما قوله: * (الوصية) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما قال: * (كتب) * لأنه أراد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكر الضمير في قوله: * (فمن بدله بعدما سمعه) * (البقرة: 181) وأيضا إنما ذكر للفصل بين الفعل والوصية، لأن الكلام لما طال