الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55) وقال: * (قل ما يعبئوا بكم ربي لولا دعاؤكم) * (الفرقان: 77) والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن. والجواب عن الشبهة الأولى: أنها متناقضة، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة، ثم نقول: كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقا بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تنم العبودية، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشئ قد فرغ منه أم أمر يستأنفه؟ فقال: بل شيء قد فرغ منه. فقالوا: ففيم العمل إذن؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه عليه السلام علقهم بين الأمرين فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال: " كل ميسر لما خلق له " يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوه، إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر، وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك.
والجواب عن الشبهة الثانية: أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية.
وعن الثالثة: أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء.
وعن الرابعة: أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاه، فذلك أعظم المقامات وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب.
المسألة الثالثة: في الآية سؤال مشكل مشهور، وهو أنه تعالى قال: * (ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) وقال في هذه الآية: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * وكذلك * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * (النمل: 62) ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب.
والجواب: أن هذه الآية وإن كانت مطلقة إلا أنه قد وردت آية أخرى مقيدة، وهو قوله تعالى: * (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) * (الأنعام: 41) ولا شك أن المطلق محمول على المقيد، ثم تقرير المعنى فيه وجوه أحدها: أن الداعي لا بد وأن يجد من دعائه عوضا، إما إسعافا بطلبته