صبا ثم شققنا الأرض شقا) * (عبس: 25، 26) فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن، فكيف الحال في الجنة، فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم؛ لأن الأم تسقيك لونا واحدا من اللبن، والأرض تطعمك كذا وكذا لونا من الأطعمة، ثم قال: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) * (طه: 55) معناه نردكم إلى هذه الأم، وهذا ليس بوعيد؛ لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى، كما كنت في بطن الأم الصغرى؛ لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة، فضلا عن أن تكون لك كبيرة، بل كنت مطيعا لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان، ومن أنواع الثمار رزقا لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم، ويعرفوا أن شيئا من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليفها إلا من كان مخالفا لها في الذات والصفات، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى. وههنا سؤالات: السؤال الأول: هل تقولون إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة، أو تقولون إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة، وفي الأرض طبيعة قابلة، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى؟ والجواب: لا شك أن على كلا القولين لا بد من الصانع الحكيم وأما التفصيل فنقول: لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة، والجسم قابل لهذه الصفات، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث، أو الإمكان، وإما هما وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادرا على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط، ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط، إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بد فيه من دليل. السؤال الثاني: لما كان قادرا على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة؟ والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوها: أحدها: أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج، لأن المكلفين إذا تحلوا المشقة في الحرث والغرس طلبا
(١١٠)