والمؤثر أشرف من القابل، فلهذا السبب قدم ذكر السماء على الأرض في الأكثر، وأيضا ففي أكثر الأمر ذكر السماوات بلفظ الجمع، والأرض بلفظ الواحد، فإنه لا بد من السماوات الكثيرة ليحصل بسببها الاتصالات المختلفة للكواكب وتغير مطارح الشعاعات، وأما الأرض فقابلة فكانت الأرض الواحدة كافية. الخامس: تفكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر وتقوية له، حتى أن الأطباء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزرقة، فانظر كيف جعل الله تعالى أديم السماء ملونا بهذا اللون الأزرق، لتنتفع به الأبصار الناظرة إليها، فهو سبحانه وتعالى جعل لونها أنفع الألوان، وهو المستنير وشكلها أفضل الأشكال، وهو المستدير، ولهذا قال: * (أو لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج) * يعني ما فيها من فصول، ولو كانت سقفا غير محيط بالأرض لكانت الفروج حاصلة.
المسألة الثالثة: في بيان فضائل السماء وبيان فضائل ما فيها، وهي الشمس والقمر والنجوم أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها، فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم، ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة، ولكن تأمل النفع في غروبها فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * (يونس: 67) وأيضا فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال: * (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) * والثالث: أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان، ويهلك ما عليها من نبات على ما قال: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) * (الفرقان: 45) فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت، بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم هذا كله في طلوع الشمس وغروبها. أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سببا لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر، ويقوي أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد، وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتنحل فضول الأبدان، ويجف وجه الأرض، ويتهيأ للبناء والعمارات، وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلا قليلا إلى الشتاء، فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت، وأما حركة الشمس فتأمل في منافعها، فإنها لو كانت واقفة في موضع