ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ثم عقب ذلك جل ثناؤه بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله (ص) وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله (ص) بمدينته وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
وأما قوله: ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الاسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. لعلهم يحذرون يقول: لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون، فيؤمنون بالله ورسوله، حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لان النفر قد بينا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشئ أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال:
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين علم أن قوله: ليتفقهوا إنما هو شرط للنفر لا لغيره، إذ كان يليه دون غيره من الكلام.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدين؟ قيل: ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه. وبعد، فإنه قال جل ثناؤه: ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم عطفا به على قوله: ليتفقهوا في الدين ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والانذار قد تقدم من الله إليها، وللانذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذار الطائفة المتخلفة