أي: في تلك القرى (ليالي وأياما) أي: ليلا شئتم المسير، أو نهارا (آمنين) من الجوع، والعطش، والتعب، ومن السباع، وكل المخاوف. وفي هذا إشارة إلى تكامل نعمه عليهم في السفر، كما أنه كذلك في الحضر.
ثم أخبر سبحانه أنهم بطروا وبغوا، (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) أي:
اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز، لنركب إليها الرواحل، ونقطع المنازل. وهذا كما قالت بنو إسرائيل لما ملوا النعمة (أخرج إلينا مما تنبت الأرض من بقلها) بدلا من المن والسلوى. (وظلموا أنفسهم) بارتكاب المعاصي، والكفر (فجعلناهم أحاديث) لمن بعدهم، يتحدثون بأمرهم وشأنهم، ويضربون بهم المثل، فيقولون:
(تفرقوا أيادي سبأ) إذا تشتتوا أعظم التشتت. (ومزقناهم كل ممزق) أي. فرقناهم في كل وجه من البلاد كل تفريق (إن في ذلك لأيات) أي: دلالات (لكل صبار) على الشدائد (شكور) على النعماء. وقيل: لكل صبار عن المعاصي، شكور للنعم بالطاعات.
القصة: عن الكلبي، عن أبي صالح قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له مزيقياء بن ماء السماء، وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب، وأنه سيأتي سيل العرم، فيخرب الجنتين. فباع عمرو بن عامر أمواله، وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة، فأقاموا بها وما حولها، فأصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى، فدعوا طريفة، فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت لهم. قد أصابني الذي تشكون، وهو مفرق بيننا. قالوا: فماذا تأمرين؟
قالت. من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عمان المشيد، وكانت أزد عمان. ثم قالت: من كان منكم ذا جلد وقسر، وصبر على أزمات الدهر، فعليه بالأراك من بطن مر، وكانت خزاعة. ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، وكانت الأوس والخزرج. ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، وملابس التاج والحرير، فليلحق ببصرى وغوير، وهما من أرض الشام، وكان الذين سكنوها آل جفنة بن غسان. ثم قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأرض العراق، وكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة، وآل محرق.