وإن كان كذبا لغة وعرفا لا تورية ولا تعريض فيه أصلا جايز لقصد الإصلاح بين الناس، والظاهر أنه لا خلاف فيه عند أهل الاسلام. ومن طريق العامة: «ليس بالكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيرا ونمى خيرا» وقد اتفقت الأمة على أنه لو جاء ظالم يطلب رجلا مختفيا ليقتله ظلما أو يطلب وديعة إنسان ليأخذها غصبا وجب الإخفاء على من علم ذلك، فأمثال هذا الكذب ليست بمذمومة في نفس الأمر بل إما واجبة أو مندوبة لأن الكذب إنما يذم ويترك لله تعالى فإذا كان لله تعالى انقلب حكمه نعم الأولى أن لا يسمى ذلك كذبا لاشتهاره بكونه مذموما بل يسمى إصلاحا فهذا قسم ثالث واسطة بين اسمي الصدق والكذب كما نطق به (عليه السلام).
17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد روينا، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام):
(أيتها العير إنكم لسارقون)؟ فقال: والله ما سرقوا وما كذب، وقال إبراهيم (عليه السلام): (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)؟ فقال: والله ما فعلوا وما كذب، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟ قال: فقلت: ما عندنا فيها إلا التسليم، قال: فقال: إن الله أحب اثنين وأبغض اثنين: أحب الخطر فيما بين الصفين وأحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات وأبغض الكذب في الإصلاح، وإن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: (بل فعله كبيرهم هذا) إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون، وقال: يوسف (عليه السلام) إرادة الإصلاح.
* الشرح:
قوله (إنه قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام): (أيتها العير إنكم لسارقون)) هذا لم يكن قول يوسف (عليه السلام) وانما كان قول مناديه ونسب إليه لوقوعه بأمره، والعير بالكسر: الإبل تحمل الميرة ثم غلب على كل قافلة.
(وقال إبراهيم (عليه السلام) (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)؟ فقال: والله ما فعلوا وما كذب) أريد بالكبير الكبير في الخلقة أو التعظيم، قيل كانت لهم سبعون صنما مصطفة وكان ثمة صنم عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، ولعل ارجاع ضمير جمع المذكر العاقل إلى الأصنام من باب التهكم أو باعتبار أنها يعقلون ويفهمون ويجيبون بزعم عبادها، وأما ضمير الجمع في قوله (عليه السلام) والله ما فعلوا فراجع إلى الكبير باعتبار إرادة الجنس الشامل للمتعدد، ولو فرضا أو إلى الأصنام للتنبيه على اشتراك الجميع في عدم صلاحية صدور ذلك الفعل منه والله أعلم.
(أحب الخطر فيما بين الصفين) أي اهتزاز الرجل وتبختره في المشي كمشي المتكبر المعجب