بنفسه (إن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: (بل فعله كبيرهم هذا) إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون) لعل المراد إرادة اصلاح حال قومه برجوعهم عن عبادة الأصنام وجه الدلالة أن العاقل إذا تفكر في نسبة الكسر إليها وعلم أنه لا يصح ذلك إلا من ذي شعور عاقل قادر وعلم أن هذه الأوصاف منتفية فيها وعلم أنها لا تقدر على دفع الاستخفاف والضرر عن نفسها علم أنها ليست بمستحقة للألوهية والعبادة ويكون ذلك داعيا إلى الرجوع عنها، ورفض العبادة لها وللعلماء فيه وجوه أخر:
الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وإلزام الخصم وتبكيته فلم يكن قصده (عليه السلام) أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم وانما قصده أن يقرره لنفسه على أسلوب تعريضي وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتابا بخط حسن وأنت مشهور بحسن الخط: أنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر فقلت: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته لصاحبك الأمي، والتعريض مما يجوز عقلا ونقلا لمصلحة كجلب نفع أو دفع ضر أو استهزاء في موضعه أو نحوها.
الثاني أنه (عليه السلام) غاظته الأصنام حين رآها مصطفة مرتبة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم وتوقيرهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته وكسره لها، والفعل كما يسند إلى المباشر يسند إلى السبب أيضا.
الثالث أن ذلك حكاية لما يقود إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال سيما الكبير الذي يستنكف أن يعبد معه هذه الصغار.
الرابع ما روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله (بل فعله) ثم يبتدئ (كبيرهم هذا) أي فعله من فعله، وهذا من باب التورية إذ له ظاهر وباطن. باطنه ما ذكر، وظاهره إسناد الفعل إلى الكبير وفهمهم تعلق به، ومراده (عليه السلام) هو الباطن.
الخامس ما روي عن بعضهم أنه كان يقف عند قوله (كبيرهم) ثم يبتدى بقوله (هذا فسألوهم) وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، وهذا أيضا من باب التورية، وأنت خبير بأنه يتم حينئذ بدون الوقف أيضا بأن يكون هذا إشارة إلى نفسه المقدسة، والمغايرة بين المشير والمشار إليه بحسب الاعتبار كاف في الإشارة.
السادس أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين لم يكونوا فاعلين،