وهكذا تجمع لك هذه الصيغة البليغة بين الإخبار عن التسبيح والتحميد وبين إنشائهما من قبلك وتعطيك السعة في متعلق الحمد لتحس بثبوته لله عز وجل أو تنشئه على ما أحببت من أفعاله ونعمائه.
أربع كلمات. تفتح عينيك وعقلك على حقلين خصبين ممتدين: حقل التقديس لصاحب الوجود وحقل نعمائه الغامرة في هذا الوجود القائم.
فتقطف منها ما تتوفق إليه من ألوان الأفكار وألوان المشاعر.
وتلاحظ في هاتين التلاوتين الارتباط الوشيج بين التسبيح والتحميد وهو ارتباط تربوي يسلكه الإسلام في مختلف المواقف ويؤكد عليه في مفاهيمه.
ذلك أن التسبيح تنزيه لله عن أن يشبه شيئا من المخلوقات، وتنزيه لذاته المقدسة أن تكون من نوع الذرات والطاقة التي يتركب منها الكون، وتنزيه لأفعاله أن يشوبها شئ من الضعف والنقص والخطأ الذي يتعرض له تحرك الأشياء. ومثل هذا النفي الشامل قد يجر الذهن إلى الاغراق وتخيل أن الله عز وجل لا يقوم فعلا بعمليات التكوين والإدارة في الوجود، وقد وقع بعضهم في هذا الوهم نعوذ بالله متخيلا أن مقتضى تنزيه الله عز وجل أن ينزهه حتى عن الخلق والإدارة أو عن قسم من الخلق والإدارة.
وما مثل هؤلاء إلا كمثل من يمتدح حاكما فينزهه عن الظلم والانحراف ثم يغرق حتى ينزهه عن الحكم والعدالة أو كمثل متفرنج خبيث أخذ يمتدح ذات مرة سمو النظام الإسلامي في جوانبه التربوية والاقتصادية حتى جعله أسمى من أن يطبق على حركة الحياة!.
إن القسم الأول من التلاوتين وخاصة تلاوة السجود سبحان ربي الأعلى - ينطلق بالفكر من مجالات التنزيه لذات الله وأفعاله انطلاقا واسعا، فكان لا بد من معادلة هذا الانطلاق النافي بانطلاق مقابل في الايجاب يتجه إلى تكوين الله وإدارته للوجود ونعمائه الغامرة في كل ذلك، ولم يكن أنسب لهذا الانطلاق الموجب من مفهوم التحميد بصيغة الجار والمجرور الفريدة وبعطفها بالواو!