يغيب!.. ومع ذلك فلم يكادوا يشيعونه إلى الجدث حتى استرقهم مس، وملكهم هوس، فانطلقوا إلى دار ابنته كمردة الشياطين!... معهم الشعل، في أيديهم الحطب والحراب، ظلالهم دمار ونار...
الموجدة على علي، والحسد لقدره، والخشية أن يفسد اعتزاله هذه البيعة التي أدلوا بها إلى أبي بكر بغرة من آل بيت الرسول، قد حركتهم جميعا على حرد نهاية المطاف فيه احتلاب صفي محمد تراث ابن عمه، وإخراج الأمر من يمينه فلا تجتمع الرسالة والخلافة في هذه الدار من هاشم، التي نبت قريش كلها بشرفها وسؤددها وعزها إبان حقبة الجاهلية وبعد مولد الإسلام... كرهوا لها أن تطولهم بالإمرة بعد سموها بالنبوة، وأن يقوم منها سيد بعد موت سيد. وأن يستأثر رجالها بالحكم، ويستأسروا بأقدارهم ومزاياهم هذه الجزيرة الفسيحة التي تعج بالقبائل كأنما عقمت عن إنجاب أمثالهم سائر البطون!...
وعلى ضياء شعلة مما طوق الدار، ولون الافق، وأشاع في الجو حره، لاح عمر وقد تغير وجهه بحنقه، وتبلل بعرقه، وتخلل الدخان لحيته، ولمع حسامه في يمينه كجذوة النار... إنه أحمس شديد في دينه، أحمس شديد في عدله، ولكنه اللحظة أحمس شديد في عنفه واندفاعه وهو يمم الباب... إنه ليثير الجمهور ويهيج الفتنة، ويهيئ الحطب ليؤرث الحريق...
واستأسد وتنمر، وتصايح وزأر، ثم اندفع من خلال الجموع كالشرر، يدق البيت على ساكنيه... ليس هذا بعمر!... ما هو بابن الخطاب!.. الذي جرى بقدميه إعصار... الذي انفجر بصدره بركان... الذي استوى على لبه مارد!... إنه الآن مخمور الأمس، عاد سيرته الاولى كحاله من بضع سنين، حين أعماه شركه، وأضله هواه، وختله عن الهدى غروره فسل حسامه وانطلق على دروب مكة ينشد النبي، ولسانه إذ ذاك يجري بكفره وخمره: