شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٠ - الصفحة ٤٣٩
قال لهم عاطفا على ما تقدم: فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عز وجل، فإنه لا يجوز أن يريد بذلك إلا العبد الذي سماه وصرح بوصفه دون ما سواه.
ويجري هذا مجرى قوله فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عز وجل، ولو أراد غيره من عبيده لكان ملغزا غير مبين في كلامه. وإذا كان الأمر كما وصفناه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزل مجتهدا في البيان غير مقصر فيه من الامكان وكان قد أتى في أول كلامه يوم الغدير بأمر صرح به وقرر أمته عليه وهو أنه أولى بهم بأنفسهم على المعنى الذي قال الله تعالى في كتابه (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ثم عطف على ذلك بعده أظهر من اعترافهم بقوله: فمن كنت مولاه فهذا علي [خ. ل:
فعلي] مولاه وكانت مولاه يحتمل ما صرح به في مقدمة كلامه ويحتمل غيره لم يجز أن يريد إلا ما صرح به في كلامه الذي قدمه وأخذ إقرار أمته به دون سائر أقسام مولى، وكان هذا قائما مقام قوله: فمن كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه. وحاش لله أن لا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أراد هذا بعينه.
ووجه آخر: وهو أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " فمن كنت مولاه فعلي مولاه " لا يخلو من حالين: إما أن يكون أراد بمولى ما تقدم به التقرير من الأولى أو يكون أراد قسما غير ذلك من أحد محتملات مولى. فإن كان أراد الأول فهو ما ذهبنا إليه واعتمدنا عليه، وإن كان أراد وجها غير ما تقدم من أحد محتملات مولى فقد خاطب الناس بخطاب يحتمل خلاف مراده ولم يكشف لهم فيه عن قصده ولا في العقل دليل عليه يغني عن التصريح بمعنى ما نحال إليه. وهذا لا يجيزه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا جاهل لا عقل له.
الجواب عن السؤال الرابع: وأما الحجة على أن لفظة أولى يفيد معنى الإمامة والرياسة على الأمة فهو أنا نجد أهل اللغة لا يصفون بهذه اللفظة إلا من كان يملك تدبير ما وصف بأنه أولى به وتصريفه وينفذ فيه أمره ونهيه. ألا تراهم يقولون: إن السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية والمولى أولى بعبده والزوج أولى بامرأته وولد الميت أولى بميراثه من جميع أقاربه، وقصدهم بذلك ما ذكرناه دون غيره. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله سبحانه (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أنه أولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم من حيث وجبت طاعته عليهم، وليس يشك أحد من العقلاء في أن من كان أولى بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كل أحد منهم فهو إمامهم الإمام المفترض الطاعة عليهم.
ووجه أحسن: ومما يوضح أن النبي عليه السلام أراد أن يوجب لأمير المؤمنين عليه السلام بذلك منزلة الرياسة والإمامة والتقدم على الكافة فيما يقتضيه فرض الطاعة أنه قررهم بلفظ " أولى " على أمر يستحقه عليهم من معناها ويستوجبه من مقتضاها وقد ثبت أنه يستحق في كونه أولى بالخلق من أنفسهم أنه الرئيس عليهم والنافذ الأمر فيهم والذي طاعته مفترضة على جميعهم. فوجب أن يستحق أمير المؤمنين عليه السلام مثل ذلك بعينه، لأنه جعل له منه مثل ما هو واجب، فكأنه قال: من كنت أولى به من نفسه في كذا فعلي أولى به من نفسه فيه.
ووجه آخر: وهو إنا إذا اعتبرنا ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام لم نر فيها ما يصح أن يكون من أراد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما اقتضاه الإمامة والرياسة على الأنام.
وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن مالكا لرق كل من ملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رقه ولا معتقا لكل من أعتقه، فيصح أن يكون أحد هذين القسمين المراد، ولا يصح أن يريد المعتق لاستحالة هذا القسم فيهما على كل حال، ولا يجوز أن يريد ابن العم والناصر. فيكون قد جمع الناس في ذلك المقام ويقول لهم: من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه ومن كنت ناصره فعلي ناصره لعلمهم ضرورة بذلك قبل هذا المقام. ومن ذا الذي يشك في أن كل من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمه فإن عليا عليه السلام ابن عمه، ومن ذا الذي لم يعلم أن المسلمين كلهم أنصار من نصره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا معنى لتخصيص أمير المؤمنين عليه السلام بذلك دون غيره. ولا يجوز أن يريد ضمان الجرائر واستحقاق الميراث، للاتفاق على أن ذلك لم يكن واجبا في شئ من الأزمان.
وكذلك لا يجوز أن يريد الحليف لأن عليا عليه السلام لم يكن حليفا لجميع حلفان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يصح أيضا أن يريد من كنت جاره فعلي جاره لأن ذلك لا فائدة فيه وليس هو أيضا صحيحا في كل حال.
فإذا بطل أن يكون مراده عليه السلام شيئا من هذه الأقسام ولم يبق إلا أن يكون قصده ما كان حاصلا له من تدبير الأنام وفرض الطاعة على الخاص والعام، وهذه هي رتبة الإمام. وفيما ذكرناه كفاية لذي الأفهام.
فصل وزيادة: فأما الذين ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصد بما قاله في أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير أن يؤكد ولاه في الدين ويوجب نصرته على المسلمين وأن ذلك على معنى قوله سبحانه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وإن الذي أوردناه من البيان على أن لفظة " مولى " يجب أن يطابق معنى ما تقدم به التقرير في الكلام وأنه لا يسوغ حملها على غير ما يقتضي الإمامة من الأقسام، يدل على بطلان ما ادعوه في هذا الباب، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام بخامل