شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٠ - الصفحة ٤٣٩
عاداه غيري؟ قالوا: اللهم لا، فأقر القوم به ولم ينكروه واعترفوا بصحته ولم يجحدوه.
فإن قال قائل: فما باله لم يذكر في حال احتجاجه به تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس على أنه أولى بهم منهم بأنفسهم؟ ولم اقتصر على ما ذكره وهو لا ينفع في الاستدلال عندكم ما لم يثبت التقرير المتقدم؟ وما جوابكم لمن قال: إن المقدمة لم تصح وليس لها أصل؟ وقد سمعنا هذا الخبر ورد في بعض الروايات وهو عار منها، فما قولكم فيها؟
قيل له: إن خلو إنشاد أمير المؤمنين عليه السلام من ذكر المقدمة لا يدل على نفيها أو الشك في صحتها، لأنه قررهم من بعض الخبر على ما يقتضي الاقرار بجميعه اختصارا في كلامه وغنى بمعرفتهم بالحال عن إيراده على كماله، وهذه عادة الناس فيما يقررون به. وقد قررهم عليه السلام في ذلك المقام بخبر الطائر فقال: أفيكم رجل قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ابعث إلي بأحب خلقك يأكل معي غيري ولم يذكر هذا الطائر، وكذلك لما قررهم بقول النبي عليه السلام فيه لما ندبه لفتح خيبر، وذكر لهم بعض الكلام دون جميعه اتكالا منه على ظهوره بينهم واشتهاره.
فأما المتواترون بالخبر فلم يوردوه إلا على كماله ولا سطروه في كتبهم إلا بالتقرير الذي في أوله، وكذلك رواه معظم أصحاب الحديث الذاكرين الأسانيد وإن كان منهم آحاد قد أغفلوا ذكر المقدمة، فيحتمل أن يكون ذلك تعويلا منهم على العلم بالخبر فذكروا بعضه لأنه عندهم مشتهر، فإن الأصحاب كثيرا ما يقولون فلان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر كذا ويذكرون بعض لفظ الخبر اختصارا وبالجملة، فالآحاد المتفردون بنقل بعضه لا يعارض بهم المتواترين الناقلين لجميعه على كماله.
الجواب عن السؤال الثاني: وأما الحجة على أن لفظ " مولى " يحتمل " أولى " وإنها أحد أقسامها. فليس يطالب بها أيضا منصف كان له أدنى الاطلاع في اللغة وبعض الاختلاط بأهلها، لأن ذلك مستفيض بينهم غير مختلف فيه عندهم وجميعهم يطلقون القول فيمن كان أولى بشئ أنه مولاه. وأنا أوضح لك أقسام مولى في اللسان لتعلمها على بيان:
إعلم أن لفظة " مولى " في اللغة تحتمل عشرة أقسام:
أولها: الأولى وهو الأصل الذي يرجع إليه جميع الأقسام، قال الله تعالى: (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي موليكم وبئس المصير) يريد سبحانه هي أولى بكم على ما جاء في التفسير وذكره أهل اللغة، وقد فسره على هذا الوجه أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه المعروف بالمجاز في القرآن ومنزلته في العلم بالعربية معروفة وقد استشهد على صحة تأويله ببيت لبيد:
قعدت كلا الفرخين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها يريد أولى المخافة ولم ينكر على أبي عبيدة أحد من أهل اللغة.
وثانيها: مالك الرق، قال الله سبحانه: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه) يريد مالكه، واشتهار هذا القسم يغني عن الإطالة فيه.
وثالثها: المعتق.
ورابعها: المعتق، وذلك أيضا مشهور معلوم.
وخامسها: ابن العم، قال الشاعر:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا * لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا وسادسها: الناصر، قال الله عز وجل: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وإن الكافرين لا مولى لهم) يريد لا ناصر لهم.
وسابعها: المستولي لضمان الجريرة ومن يحوز الميراث، قال الله عز وجل:
(ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا).
وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالمولى هيهنا من كان أملك بالميراث وأولى بحيازته. قال الأخطل:
فأصبحت مولاها من الناس بعده * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا وثامنها: الحيف.
وتاسعها: الجار، وهذان القسمان أيضا معروفان.
وعاشرها: الإمام السيد المطاع، وسيأتي في الجواب عن السؤال الرابع إن شاء الله تعالى.
فقد اتضح لك بهذا البيان ما يحتمله لفظة " مولى " من الأقسام وإن أولى أحد محتملات معاني الكلام بل هي الأصل وإليها يرجع معنى كل قسم: لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من غيره كان لذلك مولاه، والمعتق لما كان أولى بمعتقه في تحمله لجريرته وألصق به من غيره كان مولاه، وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في نسبه وأولى أيضا من الأجنبي بنصرة ابن عمه كان مولى، والناصر لما اختص بالنصرة وصار بها أولى كان لذلك مولى.
وإذا تأملت بقية الأقسام وجدتها جارية هذا المجرى وعائدة بمعناها إلى الأولى وهذا يشهد بفساد قول من زعم أنه متى أريد بمولى أولى كان ذلك مجازا، وكيف يكون مجازا وكل قسم من أقسام مولى عائد إلى معنى الأولى، وقد قال الفراء في كتاب " معاني القرآن ": إن الولي والمولى في كلام العرب واحد.
الجواب عن السؤال الثالث: فأما الحجة على أن المراد بلفظة مولى في خبر الغدير الأولى، فهي أن من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم به التصريح ولغيره فإنهم لا يردون بالمحتمل إلا ما صرحوا به من الخطاب المتقدم.
مثال ذلك: إن رجلا لو أقبل على جماعة فقال: ألستم تعرفون عبدي فلانا الحبشي؟ ثم وصف لهم أحد عبيده وميزه عنهم بنعت يخصه صرح به فإذا قالوا: بلي،