شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٢٦ - الصفحة ٥٦٣
فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيكم وصهره، يسلم لكم العاجل وترجوا من الآجل).
ثم قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه وقال:
(يا أمير المؤمنين. إنا قد فررنا عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا وأشدها عقدا وأوفاها عهدا. وقد علمت أنك لم تفتح العراق ولم تظهر عليها قعصا. ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك. فإن تف، فأنت أهل الوفاء، وإن تغدر تعلم والله إن وراء الحسن خيولا وجيادا وأذرعا شددا وسيوفا حدادا. إن تدن له شبرا من غدر، تجد وراءه باعا من نصر. وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء. وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم. والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم. وأيم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من علي).
ثم قام عبد الله بن عثمان الثقفي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أصلح الله أمير المؤمنين. إن رأي الناس مختلف. وكثير منهم منحرف لا يدعون أحدا إلى رشاد. ولا يجيبون داعيا إلى سداد. مجانبون لرأي الخلفاء. مخالفون لهم في السنة والقضاء. وقد وقفت ليزيد في أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية. فإذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام. فإن يزيد أعظمنا حلما وعلما. وأوسعنا كنفا. وخيرنا سلفا. قد أحكمته التجارب وقصدت به سبل المذاهب. فلا يصرفنك عن بعته صارف. ولا يقفن بك دونها واقف ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص. لسانه ملتو وفي صدره داء دوي. إن قال فشر قائل. وإن سكت فداء غائل. قد عرفت منهم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق. فأجل ببيعته عنا الغمة واجمع به شمل الأمة. فلا تحد عنه إذا هديت له ولا تنبش عنه إذا وقفت له. فإن ذلك الرأي لنا. ولك الحق علينا وعليك أسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك بمنه).
فقام معاوية فقال:
أيها الناس إن لإبليس من الناس إخوانا وخلانا: بهم يستعدي وإياهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق. إن رجوا طبعا أو جفوا. وإن استغني عنهم أرجفوا. ثم يلحقون الفتن بالفجور ويشققون لها حطب النفاق. عيابون مرتابون إن لووا عروة أمر حنقوا. وإن دعوا إلى غي أسرفوا. وليسوا أولئك بمنتهين ولا بمقلعين ولا متعظين حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل، وتحل بهم قوارع أمر جليل. تجتث أصولهم كاجتثاث أصول الفقع، فأولى لأولئك ثم أولى، فإنا قد قدمنا وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر).
فدعا معاوية الضحاك فولاه الكوفة - وترك المغيرة. ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة.
ثم قام أبو حنيف فقال:
(يا أمير المؤمنين: إنا لا نطيق ألسنة مضر وخطبها. أنت يا أمير المؤمنين فإن هلكت فيزيد بعدك. فمن أبى فهذا. وسل سيفه. فقال معاوية: أنت أخطب القوم وأكرمهم).
ثم قام الأحنف بن قيس فقال:
(أنت أعلمنا بليله ونهاره، وسره وعلانيته. فإن كنت تعلم أنه شر لك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة. فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب. واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم منهما وإلى ماهما. وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا ربنا وإليك المصير).
هذا ما دبره معاوية ليولي ابنه يزيد الخلافة بعده، وفي ذلك نقض لما شرطه عليه الحسن.
وقد سمع معاوية الخطباء الذين تكلموا فمدحوا يزيد وأثنوا عليه ثناء عاطرا وطلبوا توليته لاستحقاقه. وقد أجمعوا على ذلك بناء على إيعاز سابق، ولم يخالفهم غير الأحنف بن قيس، وكان كما ذكرنا في الهامش من دهاة العرب وعقلائهم. فإنه دعا معاوية إلى الوفاء للحسن وصرح له أن وراء الحسن خيولا وجيادا وأذرعا شدادا وسيوفا حدادا. أي أن له شيعة قوية تسنده وتحارب من أجله. وفي هذا تهديد ووعيد. لم يرد عليه معاوية حين قال له:
واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما. لم يرد عليه لأنه لم يشأ إثارة هذا الموضوع في مجتمع حافل فيه من يقدر عليا وأولاده ومن يفضل الحسن على يزيد. فأعرض معاوية عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة ٥٠ فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وإلى عبد الله بن عمر وإلى عبد الله بن الزبير وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر. فلما جلسوا تكلم معاوية فقال:
(الحمد لله الذي أمرنا بحمده ووعدنا عليه ثوابه. نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإني قد كبر سني ووهن عظمي وقرب أجلي وأوشكت أن أدعى فأجيب. وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد، ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها، وأبناء خيارها، لو يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما، على حسن رأيي فيهما وشديد محبتي لهما.
فردوا على أمير المؤمنين خيرا رحمكم الله).
رد عبد الله بن عباس على معاوية فتكلم عبد الله بن عباس فقال:
(الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله على محمد وآل محمد. أما بعد فإنك قد تكلمت فأنصتنا وقلت فسمعنا. وإن الله جل ثناءه وتقدست أسماؤه اختار محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته واختاره لوحيه وشرفه على خلقه. فأشرف الناس من تشرف به وأولاهم بالأمر أخصهم به. وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذا اختاره الله لها.
فإنه إنما اختار محمدا بعلمه وهو العليم الخبير والله لي ولكم).
أشار ابن عباس إلى أن أقارب النبي هم أولى بالأمر ولم يخص الحسن والحسين.
رد عبد الله بن جعفر (الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه نحمده على إلهامنا حمده نرغب إليه في تأدية حقه.
وأشهد أن لا إله إلا هو واحدا صمدا. لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد فإن هذا الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وإن أخذ فيها بسنة رسول الله فأولوا رسول الله. وإن أخذ فيها سنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول. وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان. وما اختلف في الأمة سيفان. فاتق الله يا معاوية فإنك قد صرت راعيا ونحن رعية. فانظر لرعيتك فإنك مسؤول عنها غدا. وأما ما ذكرت من ابني عمي وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق ولا يجوز لك ذلك إلا بهما وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم. فقل أو دع.
واستغفر الله لي ولكم).
صرح عبد الله بن جعفر أن أولي الأرحام أولى، وبعبارة أخرى أولي رسول الله وقال إنه كان ينبغي لمعاوية أن يستدعي الحسن والحسين.
رد عبد الله بن الزبير (الحمد لله الذي عرفنا دينه وأكرمنا برسوله، وأحمده على ما أبلى وأولى وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة تتناولها بمآثرها السنية. وأفعالها المرضية مع شرف الآباء وكرم الأبناء. فاتق الله يا معاوية وأنصف من نفسك فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذو الجناحين ابن عم رسول الله وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي خلف حسنا وحسينا، وأنت تعلم من هما وما هما. فاتق الله يا معاوية وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك).
رد عبد الله بن عمر (الحمد لله الذي أكرمنا بدينه وشرفنا بنبيه صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فإن هذه الخلافة ليست بهر قلية ولا قيصرية ولا كسراوية يتوارثها الأبناء عن الآباء. ولو كان كذلك، كنت القائم بهذا بعد أبي. فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست شرطا مشروطا وإنما هي في قريش خاصة لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم من كان أتقى وأرضى فإن كنت تريد الفتيان من قريش، فلعمري إن يزيد من فتيانها واعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا).
تعقيب معاوية على كلام العبادلة (قد قلت وقلتم، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء. فابني أحب إلي من أبنائهم مع أن ابني إن قاولتموه، وجد مقالا. وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله.
فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي الناس أبا بكر وعمر من غير معدل الملك ولا الخلافة. غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة. وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها فأما ابني عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله).
ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم، ثم انصرف راجعا إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.
(* 1) كان الضحاك على شرطه معاوية، وحارب في جيشه واستعمله على الكوفة بعد زياد سنة 53، ولما توفي معاوية صلى الضحاك عليه، وضبط البلد حتى قدم يزيد فكان مع يزيد وابنه معاوية إلى أن ماتا (* 2) أدرك الأحنف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، كان أحد الحكماء الدهاة العقلاء، وكان ممن اعتزل الحرب بين علي وعائشة رضي الله عنهما بالجمل، وشهد صفين مع علي.