وأما رابعا: فلأنه يلزم أن يكون أصول الأبدان وأجزاؤها الأصلية أزلية قديمة، والحادث إنما هو أجزاؤها الفضلية التي تزيد وتنقص. وعلى هذا فالوجه في بقائها ظاهر، فإن القديم لا يجوز عليه الزوال، ولكن لا يعلم من أي طريق حصلت تلك الذرة الأزلية في الرحم حتى خلق منها البدن، ثم نمي إلى هذه الغاية.
وأما خامسا: فلأنه لا يظهر حينئذ وجه لبقائها مستديرة، لأن كون الذرة - وهي صغار المني - مستديرة مع أنه غير معهود ولا معروف مما لا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا، إلا أن يجعل الاستدارة كناية عن انتقالها من حال إلى حال مع بقائها بذاتها كما سبق.
وأما سادسا: فلأن تلك الذرات المسؤولة في الأزل بعد ما جعلت قابلة للخطاب، إن كانت في تلك المدة المتطاولة الغير المتناهية كاسبة فأين مكسوباتها؟ وإن لم تكن بل كانت مهملة معطلة لزم التعطيل مع أنه لا وجه لتعطلها مع بقائها وبقاء ما تعلقت هي بها، وكونها قابلة للخطاب والسؤال والجواب، فيلزم أن يكون لكل إنسان علوم وكمالات أو نقصان وجهالات غير متناهية، وطول العهد لو كان منسيا، مع أنه بعينه جواب التناسخية لما كان منسيا للجميع وخاصة ما هو قريب العهد، ولا يجد إنسان من نفسه شيئا من ذلك.
وأما سابعا: فلأن تلك الذرات لما جعلوا عقلاء عارفين التوحيد فاهمين الخطاب بتعلق روح كل واحدة بها وجب أن ينكروا الميثاق، لأن أخذه إنما يكون حجة على المأخوذ عليه إذا كان ذاكرا له، وكيف يجوز أن ينسي الجم الغفير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه وميزوه حتى لا يذكره واحد منهم وإن طال العهد؟
ألا يرى أن أهل الآخرة يتذكرون كثيرا من أحوال الدنيا حتى يقول أهل الجنة لأهل النار: * (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) * (1) ولو جاز أن ينسوا ذلك لجاز أن يكون الله تعالى قد كلف (2) الخلق فيما مضى ثم أعادهم ليثيبهم أو يعاقبهم