من بنائه، فصعد النعمان على رأسه ونظر إلى البحر تجاهه والبر خلفه، فرأى الحوت والضب والظبي والنخل فقال: ما رأيت مثل هذا البناء قط.
فقال له سنمار: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله.
فقال النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟
قال: لا.
قال: لا جرم لأدعنها وما يعرفها أحد.
ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع، فضربت العرب به المثل فقال شاعر:
جزاني جزاه الله شر جزائه * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رمه البنيان ستين حجة * يعل عليه بالقراميد والسكب فلما رأى البنيان تم سحوقه * وآض كمثل الطود والشامخ الصعب فظن سنمار به كل حبوة * وفاز لديه بالمودة والقرب فقال: اقذفوا بالعلج من فوق رأسه * فهذا لعمر الله من أعجب الخطب وقد ذكرها كثير منهم وضربوا سنمار مثلا.
وكان النعمان هذا قد غزا الشام مرارا، وكان من أشد الملوك بأسا، فبينما هو ذات يوم جالس في مجلسه في الخورنق فأشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار، مما يلي المغرب وعلى الفرات مما يلي المشرق والخورنق مقابل الفرات يدور عليه على عاقول كالخندق، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار فقال لوزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟
فقال: لا والله أيها الملك ما رأيت مثله لو كان يدوم.
قال: فما الذي يدوم؟
قال: ما عند الله في الآخرة.
قال: فبم ينال ذلك؟
قال: بترك هذه الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده.
فترك ملكه في ليلته ولبس المسوح وخرج متخفيا هاربا ولا يعلم به أحد، ولم يقف الناس على خبره إلى الآن، فجاؤوا بابه بالغداة على رسمهم فلم يؤذن لهم عليه كما جرت العادة، فلما أبطأ الآذن أنكروا ذلك وسألوا عن الأمر، فأشكل الأمر عليهم