قولهم إن حق المخصص أن يكون متأخرا عما خصصه. قلنا: يجب أن يكون متأخرا بالنظر إلى ذاته، أو بالنظر إلى صفته، وهو كونه مبينا ومخصصا؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم. وذلك لان دليل العقل، وإن كان متقدما في ذاته على الخطاب المفروض، غير أنه لا يوصف قبل ذلك بكونه مخصصا لما يوجد، وإنما يصير مخصصا ومبينا بعد وجود الخطاب. وأما الاستثناء فإنما لم يجز تقديمه، لان المتكلم به لا يعد متكلما بكلام أهل اللغة، كما إذا قال إلا زيدا ثم قال بعد ذلك قام القوم. وهذا بخلاف التخصيص، فإنه إذا قال * (الله خالق كل شئ) * (39) الزمر: 62) وقام الدليل العقلي على أنه لم يرد بكلامه ذات الباري تعالى، فإنه لا يخرج بذلك الكلام عن كونه متكلما بكلام العرب.
وأما امتناع النسخ بالعقل،، فإنما كان من جهة أن الناسخ معرف لبيان مدة الحكم المقصودة في نظر الشارع، وذلك ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه بمجرد قولهم: العقل، بخلاف معرفة استحالة كون ذات الرب تعالى مخلوقة مقدورة قولهم ما المانع أن يكون التمسك بدليل العقل مشروطا بعدم معارضة الكتاب له. قلنا: إذ وقع التعارض بينهما، وأحدهما مقتض للاثبات، والآخر للنفي، فلا سبيل إلى الجمع بين موجبيهما، لما فيه من التناقض، ولا إلى نفيهما، لما فيه من وجود واسطة بين النفي والاثبات، فلم يبق إلا العمل بأحدهما والعمل بعموم اللفظ مما يبطل دلالة صريح العقل بالكلية، وهو محال، والعمل بدليل العقل لا يبطل عموم الكتاب بالكلية، بل غايته إخراج بعض ما تناوله اللفظ من جهة اللغة، عن كونه مرادا للمتكلم، وهو غير ممتنع، فكان العمل بدليل العقل متعينا.