المسألة السادسة: قوله * (لقوم يعلمون) * يعني إنما جعلناه * (عربيا) * لأجل أن يعلموا المراد منه، والقائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح والحكم، تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تدل على أنه إنما جعله * (عربيا) * لهذه الحكمة، فهذا يدل على أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه جائز.
المسألة السابعة: قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم وفيه ما لا يعلم، وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم، والدليل عليه قوله تعالى: * (قرآنا عربيا لقوم يعلمون) * يعني إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما والقوم بأنه غير معلوم يقدح فيه.
المسألة الثامنة: قوله تعالى: * (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) * يدل على أن الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه، لأنا بينا أن كونه نازلا من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب، وكونه * (قرآنا عربيا) * مفصلا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان، وكونه * (بشيرا ونذيرا) * يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات، لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات، وقد حصلت هذه الموجبات الثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم، وذلك يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله، ولا ضال إلا من أضله الله. واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم عرضوا عنه ولا يسمعونه، بين أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء أحدها: أنهم قالوا * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء، والكنان هو الذي يجعل فيه السهام وثانيها: قولهم * (وفي آذاننا وقر) * أي صمم وثقل من استماع قولك وثالثها: قولهم * (ومن بيننا وبينك حجاب) * والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة * (من) * في قوله * (ومن بيننا) * أنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى أن حجابا حصل وسط الجهتين، وأما بزيادة لفظ * (من) * كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب، وما بقي جزء منها فارغا عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب، هكذا ذكره صاحب " الكشاف " وهو في غاية الحسن.
واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة، وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف، فلما بين أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب.
واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاما لم يفهم معناه كما ينبغي، وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سببا للوقوف على دقائق أحوالك ذلك