لكنه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك: أتأكل أم أي أتأكل أم لا تأكل، تقتصر على ذكر كلمة أم إيثارا للاختصار فكذا ههنا، فإن قيل أليس أن موسى عليه السلام سأل الله تعالى أن يزيل الرتة عن لسانه بقوله * (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) * (طه: 27) فأعطاه الله تعالى ذلك بقوله * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36) فكيف عابه فرعون بتلك الرتة؟ والجواب: عنه من وجهين: الأول: أن فرعون أراد بقوله * (ولا يكاد يبين) * حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام والثاني: أنه عابه بما كان عليه أولا، وذلك أن موسى كان عند فرعون زمانا طويلا وفي لسانه حبسة، فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرتة لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عنه.
ثم قال: * (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب) * والمراد أن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا منهم رئيسا لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة، واختلف القراء في أسورة فبعضهم قرأ وآخرون أساورة فأسورة جمع سوار لأدنى العدد، كقولك حمار وأحمرة وغراب وأغربة، ومن قرأ أساورة فذاك لأن أساوير جمع أسوار وهو السوار فأساورة تكون الهاء عوضا عن الياء، نحو بطريق وبطارقة وزنديق وزنادقة وفرزين وفرازنة فتكون أساورة جمع أسوار، وحاصل الكلام يرجع إلى حرف واحد وهو أن فرعون كان يقول أنا أكثر مالا وجاها، فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولا من الله، لأن منصب النبوة يقتضي المخدومية، والأخس لا يكون مخدوما للأشرف، ثم المقدمة الفاسدة هي قوله من كان أكثر مالا وجاها فهو أفضل وهي عين المقدمة التي تمسك بها كفار قريش في قولهم * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) ثم قال: * (أو جاء معه الملائكة مقترنين) * يجوز أن يكون المراد مقرنين به، من قولك قرنته به فاقترن وأن يكون من قولهم اقترنوا بمعنى تقارنوا، قال الزجاج معناه يمشون معه فيدلون على صحة نبوته.
ثم قال تعالى: * (فاستخف قومه فأطاعوه) * أي طلب منهم الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به فأطاعوه * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق * (فلما آسفونا) * أغضبونا، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له أتغضب يا أبا خالد؟ فقال قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله يقول * (فلما آسفونا) * أي أغضبونا.
ثم قال تعالى: * (انتقمنا منهم) * واعلم أن ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى محال وذكر لفظ الانتقام وكل واحد منهما من المتشابهات التي يجب أن يصار فيها إلى التأويل، ومعنى الغضب في حق الله إرادة العقاب، ومعنى الانتقام إرادة العقاب لجرم سابق.
ثم قال تعالى: * (فجعلناهم سلفا ومثلا) * السلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض فهو سلف والسلف أيضا من تقدم من آبائك وأقاربك واحدهم سالف، ومنه قول طفيل يرثي قومه: