ثم قال: * (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) * فإن قيل ظاهر اللفظ يقتضي كون كل واحد منها أفضل من التالي وذلك محال، قلنا إذا أريد المبالغة في كون كل من تلك الأشياء بالغا إلى أقصى الدرجات في الفضيلة، فقد يذكر هذا الكلام بمعنى أنه لا يبعد في أناس ينظرون إليها أن يقول هذا إن هذا أفضل من الثاني، وأن يقول الثاني لا بل الثاني أفضل، وأن يقول الثالث أفضل، وحينئذ يصير كل واحد من تلك الأشياء مقولا فيه إنه أفضل من غيره.
ثم قال تعالى: * (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) * أي عن الكفر إلى الإيمان، قالت المعتزلة هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل وأنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا من الكفر إلى الإيمان، قال المفسرون ومعنى قوله * (وأخذناهم بالعذاب) * أي بالأشياء التي سلطها عليها كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس.
ثم قال تعالى: * (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) * فإن قيل كيف سموه بالساحر مع قولهم * (إننا لمهتدون) *؟ قلنا فيه وجوه الأول: أنهم كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر، لأنهم كانوا يستعظمون السحر، وكما يقال في زماننا في العامل العجيب الكامل إنه أتى بالسحر الثاني: * (يا أيها الساحر) * في زعم الناس ومتعارف قوم فرعون كقوله * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه الثالث: أن قولهم * (إننا لمهتدون) * وقد كانوا عازمين على خلافه ألا ترى إلى قوله * (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) * فتسميتهم إياه بالسحر لا ينافي قولهم * (إننا لمهتدون) * ثم بين تعالى أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ذلك العهد.
ولما حكى الله تعالى معاملة فرعون مع موسى، حكى أيضا معاملة فرعون معه فقال: * (ونادى فرعون في قومه) * والمعنى أنه أظهر هذا القول فقال: * (قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) * يعني الأنهار التي فصلوها من النيل ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، قيل كانت تجري تحت قصره، وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله وقوة جاهه على فضيلة نفسه.
ثم قال: * (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) * وعنى بكونه مهينا كونه فقيرا ضعيف الحال، وبقوله * (ولا يكاد يبين) * حبسة كانت في لسانه، واختلفوا في معنى أم ههنا فقال أبو عبيدة مجازها بل أنا خير، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله * (أفلا تبصرون) * ثم ابتدأ فقال: * (أم أنا خير) * بمعنى بل أنا خير، وقال الباقون أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وصع قوله * (أنا خير) * موضع تبصرون، لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء، وقال آخرون إن تمام الكلام عند قوله * (أم) * وقوله * (أنا خير) * ابتداء الكلام والتقدير أفلا تبصرون