فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة. فثبت أن التعذيب ضرر خال عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضارا، والجهل الذي لا يكون ضارا، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار، لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر، دون قبيح نفس الضرر، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح، وثانيها: أنه تعالى كان عالما بأن الكافر لا يؤمن على ما قال: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان، فلو كان ذلك العصيان سببا للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقبا لاستحقاق العقاب، إما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطر العلة، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب، وما كان مستعقبا للضرر الخالي عن النفع كان قبيحا، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحا، والقبيح لا يفعله الحكيم، فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين، إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب، وكيف كان فالمقصود حاصل وثالثها: أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع، أو للإضرار، أولا للإنفاع ولا للإضرار، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلا يؤدي بهم إلى العقاب، فإذا كان قاصدا لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سببا لاستحقاق العذاب، ولا جائز أن يقال. خلقهم لا للإنفاع ولا للإضرار، لأن الترك على العدم يكفي في ذلك، ولأنه على هذا التقدير يكون عبثا، ولا جائز أن يقال: خلقهم للإضرار، لأن مثل هذا لا يكون رحيما كريما، وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيما كريما، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير، وكل ذلك يدل على عدم العقاب. ورابعها: أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها، وبينا أن ذلك يوجب الجبر، وتعذيب المجبور قبيح في العقول، وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا: إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر، فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر؟ فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى، أو أن هذا أصغى إلي من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصي، فيقال: ولم أصغي هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم؟ فنقول: لأن هذا لبيب حازم فطن، وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك، ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية. فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه؟ فإذا تناهت
(٥٥)