فإن قال قائل: فهل يجوز أن يكون الاستثناء من قوله: فاجلدوهم ثمانين جلدة فتكون التوبة مسقطة عنه الحد، كما كانت لشهادته عندك قبل الحد وبعده مجيزة ولاسم الفسق عنه مزيلة؟ قيل: ذلك غير جائز عندنا وذلك أن الحد حق عندنا للمقذوفة كالقصاص الذي يجب لها من جناية يجنيها عليها مما فيه القصاص. ولا خلاف بين الجميع أن توبته من ذلك لا تضع عنه الواجب لها من القصاص منه، فكذلك توبته من القذف لا تضع عنه الواجب لها من الحد، لان ذلك حق لها، إن شاءت عفته، وإن شاءت طالبت به. فتوبة العبد من ذنبه إنما تضع عن العبد الأسماء الذميمة والصفات القبيحة، فأما حقوق الآدميين التي أوجبها الله لبعضهم على بعض في كل الأحوال فلا تزول بها ولا تبطل.
واختلف أهل العلم في صفة توبة القاذف التي تقبل معها شهادته، فقال بعضهم: هو إكذابه نفسه فيه. وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى قبل، ونحن نذكر بعض ما حضرنا ذكره مما لم نذكره قبل.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن ليث، عن طاوس، قال: توبة القاذف أن يكذب نفسه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، قال:
رأيت رجلا ضرب حدا في قذف بالمدينة، فلما فرغ من ضربه تناول ثوبه، ثم قال: أستغفر الله وأتوب إليه من قذف المحصنات قال: فلقيت أبا الزناد، فذكرت ذلك له، قال: فقال:
إن الامر عندنا هاهنا أنه إذا قال ذلك حين يفرغ من ضربه ولم نعلم منه إلا خيرا قبلت شهادته.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا... الآية، قال: من اعترف وأقر على نفسه علانية أنه قال البهتان وتاب إلى الله توبة نصوحا والنصوح: أن لا يعودوا، وإقراره واعترافه عند الحد حين يؤخذ بالجلد فقد تاب والله غفور رحيم.
وقال آخرون: توبته من ذلك صلاح حاله وندمه على ما فرط منه من ذلك والاستغفار منه وتركه العود في مثل ذلك من الجرم. وذلك قول جماعة من التابعين وغيرهم، وقد ذكرنا بعض قائليه فيما مضى، وهو قول مالك بن أنس.
وهذا القول أولى القولين في ذلك بالصواب لان الله تعالى ذكره جعل توبة كل ذي