يسكت عما يجب اعتقاده في الله، وقوله سبحانه (ليس كمثله شئ) (الشورى: ١١) نص في نفي الجهة عنه تعالى إذ لو لم تنف عنه الجهة لكانت له أمثال لا تحصى، تعالى الله عن ذلك - ثم أنظر قوله في منهاجه (١ - ٢٦٤): فثبت أنه في الجهة على التقديرين ا ه) لتعلم كيف رماه الله بقلة الدين وقلة الحياء في آن واحد. وأما ما ينقله الذهبي وغيره من الحشوية من تفسير القرطبي في قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) (الأعراف: ٥٤) من أنه قال: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله فتساهل منه في العبارة، فإنه لم يرد لفظ الجهة في عبارة السلف ولا في كتاب الله، ولو أراد ورود هذا اللفظ لكذبه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والآثار المروية عن السلف لأن الوارد لفظ (وهو القاهر فوق عباده) (الأنعام: ١٨) و (ثم استوى على العرش) (الأعراف: ٥٤) ونحو ذلك بدون تعرض للتكييف بالجهة، وهكذا الوارد في السنة وآثار السلف ويعين قوله (كما نطق به كتابه) أن مراده الفوقية والعلو بلا كيف وذكر الجهة سبق قلم منه فلا يكون متمسك للحشوية فيما ذكره القرطبي في تفسيره كيف وهو القائل فيه:
(متى اختص بجهة يكون في مكان وحيز فيلزم الحركة والسكون ا ه) وهو القائل أيضا في (التذكار في أفضل الأذكار) ص ١٣: (يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض إذ لو كان في شئ لكان محصورا أو محدودا ولو كان ذلك لكان محدثا وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق ا ه).
تناقض ابن تيمية في الجهة وكذبه وفي (ص ٢٠٧) من الكتاب المذكور: (ثم متبعو المتشابه لا يخلو اتباعهم من أن يكون لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وغير ذلك من يد وعين وجنب وأصبع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والصحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد. ا ه). فبذلك تبين أن تمسك الحشوية بقول القرطبي السابق من قبيل الاستجارة من الرمضاء بالنار وبه يظهر مذهب المالكية فيمن يقول بذلك كما يظهر قول الشافعية فيه من كفاية الأخيار للتقي الحصني، حيث قال فيها بعد أن أشار إلى كلام الرافعي في كتاب الشهادات: (جزم النووي في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة.
قلت: وهو الصواب الذي لا محيد عنه ا ه).
ومن حذاق النظار من استدل على بطلان القول بالجهة بقوله تعالى:
(وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق) (المؤمنون: ٩١) باعتبار أن فيه استدلالا على بطلان التعدد ببطلان لازمه الذي هو انحياز الإله إلى جهة، راجع شعب الإيمان للحليمي. وفي الإكمال شرح مسلم للقاضي عياض (ثم من صار من دهماء الفقهاء والمحدثين وبعض متكلمي الأشعرية وكافة الكرامية إلى الجهة أول (في) ب (على). ومن أحال ذلك - وهم الأكثر فلهم فيها تأويلات... وقد أجمع أهل السنة على تصويب القول بالوقف من التفكر في ذاته تعالى لحيرة العقل هنالك، وحومة التكييف. والوقف في ذلك غير شك في الوجود ولا جهل بالموجود فلا يقدح في التوحيد بل هو حقيقته. وقد تسامح بعضهم في إثبات جهة تخصه تعالى أو شار إليه بحيز يحاذيه، وهل بين التكييفين (أي التكييف المحرم إجماعا والتكييف بالجهة) فرق؟!. وبين التحديد في الذات والجهة فرق؟!. وقد أطلق الشرع أنه القاهر فوق عباده وأنه استوى على العرش فالتمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في العقل غيره وهي قوله تعالى (ليس كمثله شئ) (الشورى: ١١) (عصمة لمن وفقه الله تعالى) ا ه. وقد تعقبه الأبي تعقبا شديدا، وقال ما نسب من القول بالجهة إلى الدهماء ومن بعدهم من الفقهاء والمتكلمين لا يصح ولم يقع إلا لأبي عمر في الإستذكار (والتمهيد) ولابن أبي زيد في الرسالة وهو عنهما متأول. ثم نقل عن الفقهاء التونسيين كابن عبد السلام وابن هارون والفاسيين كالسطي وابن الصباغ اتفاقهم على إنكار ذلك في مجلس الأمير أبي الحسن ملك المغرب. راجع شرح مسلم (2 - 241) للأبي.
أقول: إنما ذكر القاضي عياض من صار من الدهماء إلى القول بالجهة وأين في ذلك نسبة ذلك إلى الدهماء على أن لفظ الجهة لم يقع في كلام أبي عمر ولا في كلام ابن أبي زيد وإن كان ظاهر كلامهما يوهم ذلك وقد تأول كلامهما المالكية ليكونا مع الجمهور في هذه المسألة الخطرة ولو ترك كلامهما على الظاهر لهويا في هاوية التجسيم وذلك عزيز عليهم أيضا، وقول القاضي عياض ليس يشمل المشارقة حيث لم يرحل إلى الشرق وإنما قوله بالنظر إلى معنى كلام بعض الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أهل بلاده من أصحاب الطلمنكي وابن أبي زيد وأبي عمر بل لا أذكر وقوع لفظ الجهة في كلام أحد منهم، وإنما جرى ابن رشد الفيلسوف في المناهج على التساهل بذكر ما لم يجر على لسانهم باعتباره معنى كلامهم كما سبق، والحاصل أن التكييف غير جائز إجماعا - ويمكن جمع جزء في الآثار الواردة في المنع من التكييف والتشبيه - ولا شك أن القول بالجهة تكييف لم يقع إلا في عبارات أناس هلكى، وأما تأويل القائلين بالجهة ما يوهم كونه في السماء بمعنى على السماء، كما ذكر القاضي عياض، فلا ينجيهم من ورطة التجسيم لأن (في) في قوله تعالى (ولأصلبنكم في جذوع النخل) (طه: 71) لم تزل تفيد تمكين المصلوب في الجذع كتمكين المظروف في الظرف، وكذلك قوله تعالى (قل سيروا في الأرض) (العنكبوت: 20) فحمل لفظ (في) على معنى (على) لا يجدي في الإبعاد عن التمكن وإنما التأويل الصحيح ما أشار إليه الباجي من استعمال العرب لفظ (هو في السماء) يعنون علو شأنه ورفعة منزلته بدون ملاحظة كونه في السماء أصلا كقول الشاعر:
علونا السماء مجدنا وجدودنا * وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا وظاهر أنه لم يرد إلا علو الشأن. وليس قوله تعالى (أأمنتم من في السماء) (الملك: 16) من هذا القبيل بل الظاهر أن المراد خاسف سدوم وعد (في السماء) بمعنى على السماء ثم جعل على السماء بمعنى (على العرش) باعتبار أن السماء مأخوذة من السمو، غفلة عن شمولها للسقف والسحاب على هذا التقديد غير التبادر وتخصيصها بالعرش عن هوى مجرد كما لا يخفى. وفيما ذكرناه كفاية لأهل التبصر.
مخالفات ابن تيمية