(فصل) بحث ممتع في التأول في جناية التأويل (1) على ما جاء به الرسول ".
(1) من كلام العرب ما يفهم منه مراد التكلم بمجرد سماعه بدون احتياج إلى التدبر ومنه ما لا ينفهم المراد منه إلا بعد التأمل فيما يؤول إليه ذلك الكلام والتأويل تبيين ما يؤول إليه الكلام بعد التدبر فمن نفى التأويل جملة وتفصيلا فقد جهل الكتاب والسنة ومناص كلام العرب في التخاطب. وأبو يعلى الحنبلي المسكين - من أئمة الناظم - ألف كتابا سماه (إبطال التأويلات في أخبار الصفات) أتى فيه بكل طامة حتى قال عنه أبو محمد رزق الله التميمي الحنبلي: لقد بال أبو يعلى على الحنابلة بولة لا يغسلها ماء البحار. كما ذكره سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، ولفظ ابن الأثير في الكامل أفظع وأما لفظ ابن الجوزي في دفع الشبه فرواية بالمعنى، وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي في دفع شبه التشبيه كثيرا من مخازيه بل في تأسيس ابن تيمية نقول كثيرة من كتاب (إبطال التأويلات) منها إثبات الحد له تعالى من الجانب الأسفل، تعالى الله عن ذلك. ويأسف الإنسان كل الأسف أن يضل مثل أبي يعلى هذا الضلال وما ذلك إلا من عدوي خلطائه، فلو كان والده الذي كان من أخص أصحاب أبي بكر الرازي الجصاص رأى ما آل إليه أمر ابنه اليتيم عنه لبكى بكاء مرا وتبرأ منه ومن عقائده. ومما زاد في ويلات الكتاب اعتداده بكل خبر غير مميز بين المختلق وغيره. ولأبي يعلى هذا كتاب المعتمد في المعتقد وهو قريب إلى السنة ونرجو أن يكون هذا آخر مؤلفاته ليكون قاضيا على ما سلف منه وإلا فيا للعار والنار من مسايرة الأشرار، فمن أول في كل موضع فهو قرمطي كافر، ومن أبى التأويل في كل آية وحديث فهو حجري زائغ كابن الفاعوس الحنبلي الذي لقب بالحجري حيث كان يقول إن الحجر الأسود يمين الله حقيقة قال أبو بكر بن العربي عن الظاهرية:
قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا * عنها العدول إلى رأي ولا نظر بينوا عن الخلق لستم منهم أبدا * ما للأنام ومعلوف من البقر وقد قال ابن عقيل الحنبلي " هلك الإسلام بين طائفتين: الباطنية والظاهرية والحق بين المنزلتين وهو أن نأخذ بالظاهر ما لم يصرفنا عنه دليل ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع " وللغزالي جزء لطيف سماه قانون التأويل وهو يقول فيه عند البحث فيما إذا كان بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر: (والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلا والمنقول تابعا وإلى من جعل المنقول أصلا والمعقول تابعا وإلى من جعل كل واحد أصلا): ثم شرح هؤلاء الأصناف الخمسة شرحا جيدا لا يستغني عنه باحث، حفظنا الله سبحانه من الافراط والتفريط وسلك بنا سواء السبيل وفي الاطلاع على جزء الغزالي هذا فوائد في هذا الصدد.
قول ابن حجر في التأويل وأما قول ابن حجر في فتح الباري " إنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحد من الصحابة بطريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شئ من ذلك - يعني المتشابهات - ولا المنع من ذكره ومن المحال أن يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل ألية ربه وينزل عليه " اليوم أكملت لكم دينكم " (المائدة: 3) ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه تعالى وما لا يجوز مع حثه على التبليغ عنه بقوله صلى الله عليه وسلم (ليبلغ الشاهد الغائب) حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وما فعل بحضرته فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله تعالى منها ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى: " ليس كمثله شئ " (الشورى: 11) فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم وبالله التوفيق ا ه ".
فليس مما يستطيع الحشوي أن يتخذه سندا في ترويج مزاعم المشبهة رغم محاولة بعضهم ذلك لأن في سياق كلامه ما يحتم التفويض مع التنزيه وهو مذهب جمهور السلف وليس أحد من أهل العلم يمنع من إجراء المتشابه في الكتاب والسنة المشهورة على اللسان بدون خوض في المعنى فمن خاض وحمل على ما ينافي التنزيه فهو الذي خالف سبيلهم، بل الصحابة كلهم أجمعوا على تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقات في ذاته وصفاته وأفعاله ومن ضرورة ذلك صرف الألفاظ المستعملة في الخلق عن معانيها المتعرفة بينهم إلى معان تتسامى عنها عند نسبة تلك الألفاظ إلى الله سبحانه على مقتضى قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " وهو. تأويل إجمالي وأما تعيين تلك المعاني المتسامية تفصيلا بقرائن قائمة فمما يختلف مبلغ انتباه أهل العلم إليه على اختلاف ما آتاهم الله من الفهم فمن بان له وجه الكلام كوضح الصبح يسلك طريق التبيين بل يدخل هذا المتشابه في حقة في عداد المحكم - وذلك كالنظري بالنسبة إلى الحدسي وكم من نظري مستصعب عند أناس يكون حدسيا مكشوفا عند أناس آخرين - فأحاديث النزول مثلا إبعادها عن معان توجب التشبيه والنقلة موضع اتفاق بين أهل الحق سلفا وخلفا وحملها على المجاز في الطرف أو على الإسناد المجازي استعمال عربي صحيح وموافق للتنزيه وقد يترجح عند بعضهم الأول وعند بعضهم الثاني، ولكن الذي صح عنده رواية الإنزال أو اطلع على صحة حديث أبي هريرة في سنن النسائي (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له) يجزم بإرادة الإسناد المجازي في باقي الروايات فيخرج حديث النزول في نظره من عداد المتشابه ويدخل في عداد المحكم حيث رده ألية.
تحقيق ابن دقيق العيد قال الإمام المجتهد ابن دقيق العيد: " إن بهان التأويل من المجاز البين الشايع فالحق سلوكه من غير توقف، أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه، وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين ا ه " وهذا كلام نفيس جدا ينبئ عن علم جم، وصراحة في بيان الحق، وتوسط حكيم بخلاف كلام الذين يسعون في إرضاء الطوائف بكلام معقد متشابه يفتح باب التقول لمن بعدهم من الزائغين في المتشابهات، وأين هؤلاء من ابن دقيق العيد في التروي والأمانة والصراحة والتحقيق وا لجمع بين الأصلين والفقه والحديث؟. وعن ابن دقيق العيد هذا يقول ابن المعلم: (كان مبارزا لأهل البدع من الحشوية والصوتية والقائلين بالجهة... منكرا عليهم بيده ولسانه ولفظه وجنانه يغري ويؤلب عليهم ولا يدع لهم رأسا قائمة إلا اقتطعها ولا شجرة يخشى شرها إلا اقتلعها) فتبين من ذلك أن المسلم في سعة من التفويض والتأويل فالأول في حينه أسلم والثاني بشرطه أحكم فلا يتصور أن ينقل التصريح بوجوب التأويل التفصيلي عن الصحابة لأنه لو نقل لوجب التأويل التفصيلي على العالم والجاهل على حد سواء وهذا مما يبرأ منه الشرع الحنيف.
صنيع الصحابة في التأويل وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يخوضون في المعضلات حرصا منهم على معتقد الذين قرب عهدهم بالجاهلية وتدريبا لهم على الأعمال النافعة دون المماحكات الفارغة، لأن الخوض فيها يضر ولا ينفع في شخص دون شخص وفي وقت دون وقت - وعمل الفاروق رضي الله عنه في صبيغ معروف - ولم