لا يجوز أن ينصرف عنه إلى طريق الغي لأن العقلاء لا يختارون مثل ذلك.. قلنا الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه. أحدها أن يكون المراد بالرؤية الثانية رؤية البصر ويكون السبيل المذكور في الآية هي الأدلة والآيات لأنها مما يدركه بالبصر ويسمى سبيل الرشد من حيث كانت وصلة إلى الرشد وذريعة إلى حصوله ويكون سبيل الغي هو الشبهات والمخاريق التي ينصبها المبطلون والمدغلون في الدين فيوقعوا بها الشبهة على أهل الايمان وتسمى بأنها سبيل الغي وإن كان النظر فيها لا يوجب حصول الغي من حيث كان المعلوم ممن تشاغل بها واغتر بأهلها أنه يصير إلى الغي. والوجه الثاني أن يكون المراد بالرؤية العلم إلا أن العلم لا يتناول كونها سبيلا للرشد وكونها سبيلا للغي بل يتناولها لا من هذا الوجه ألا ترى أن كثيرا من المبطلين يعلمون مذاهب أهل الحق واعتقاداتهم وحججهم إلا أنهم يجهلون كونها صحيحة مفضية إلى الحق فيتجنبونها وكذلك يعلمون مذاهب المبطلين واعتقاداتهم الباطلة إلا أنهم يجهلون كونها باطلة ويعتقدون صحتها بالشبهة فيصيرون إليها وعلى هذا الوجه لا يجب أن يكون الله تعالى وصفهم بالغي وترك الحق مع العلم به. والوجه الثالث أن يكونوا عالمين بسبيل الرشد والغي ومميزين بينهما إلا أنهم للميل إلى أعراض الدنيا والذهاب مع الهوى والشبهات يعدلون عن الرشد إلى الغي ويجحدون ما يعلمون كما أخبر الله سبحانه عن كثير من أهل الكتاب بأنهم يجحدون الحق وهم يعلمونه ويستيقنونه.. فان قيل فما معنى قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) والتكذيب لا يكون في الحقيقة الا في الأخبار دون غيرها.. قلنا التكذيب قد يطلق على الأخبار وغيرها ألا ترى انهم يقولون فلان يكذب بكذا إذا كان يعتقد بطلانه كما يقولون يصدق بكذا وكذا إذا كان يعتقد صحته ولو صرفنا التكذيب ههنا إلي أخبار الله تعالى التي تضمنتها كتبه الواردة على أيدي رسله جاز فتكون الآيات ههنا هي الكتب المنزلة دون سائر المعجزات.. فان قيل فما معنى ذمه تعالى (ذلك بأنهم كانوا عن آياتنا غافلين) والغفلة على مذهبكم من فعله لأنها السهو وما جرى مجراه مما ينافي العلوم الضرورية ولا تكليف على الساهي فكيف يذم بذلك.. قلنا المراد ههنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة
(٢٣٠)