وإذا كان خائفا من المنافقين أن يقدحوا في صحة الكتاب، فلماذا بذر لهم بذرة القدح حيث عارض ومانع وقال: " هجر "؟!
وأما قولهم في تفسير قوله: " حسبنا كتاب الله ": إنه تعالى قال: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقال عز من قائل: (اليوم أكملت لكم دينكم) فغير صحيح، لأن الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال، ولا تضمنان الهداية للناس.
فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتمادا عليهما؟! ولو كان وجود القرآن العزيز موجبا للأمن من الضلال، لما وقع في هذه الأمة من الضلال والتفرق ما لا يرجى زواله.
وقالوا في الجواب الأخير: إن عمر لم يفهم من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أمته من الضلال، وإنما فهم أنه سيكون سببا لعدم اجتماعهم - بعد كتابته - على الضلال. (قالوا): وقد علم رضي الله عنه أن اجتماعهم على الضلال مما لا يكون أبدا، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب، ولهذا عارض يومئذ تلك المعارضة.
وفيه - مضافا إلى ما أشرتم إليه -: أن عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد عن الفهم، وما كان ليخفى عليه من هذا الحديث ما ظهر لجميع الناس، لأن القروي والبدوي إنما فهما منه أن ذلك الكتاب لو كتب لكان علة تامة في حفظ كل فرد من الضلال. وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث إلى أفهام الناس.
وعمر كان يعلم أن الرسول (ص) لم يكن خائفا على أمته أن تجتمع على الضلال، إذ كان يسمع قوله (ص): " لا تجتمع أمتي على الضلال، ولا تجتمع على الخطأ "، وقوله:
" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق... " (الحديث)، وقوله تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا﴾ (1)، إلى كثير من نصوص الكتاب والسنة الصريحة بأن الأمة لا تجتمع بأسرها على الضلال..
فلا يعقل مع هذا أن يسنح في خاطر عمر أو غيره أن النبي (ص) حين طلب الدواة