واعلم أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بأفضل ما حظي به المترفون، وأخذوا منها أفضل ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم وتيقنوا أنهم جيران الله غدا في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيب من لذة.
واحذر الموت وقربه وأعد له عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبدا، وشر لا يكون معه خير أبدا، فما أقرب إلى الجنة من عمل لها، وما أقرب إلى النار من عالها.
واعلم أنكم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم وهو ألزم لكم من ظلمكم، فإنه معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من خلفكم، واحذروا نارا قعرها بعيد وحرها شديد وعذابها حديد، دار ليس فيها رحمة، ولا يسمع فيها دعوة، ولا يفرج فيها كربة، ولا يرحم فيها عبرة، وإن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله وأن يحسن ظنكم به فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه منه، وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا له.
واعلم يا معاوية أني صالحتك على أن تخالف نفسك وتناصح دينك ولا تسخط الله برضى أحد من خلقه، فإن لله خلفا من غيره وليس من الله خلف في غيره، وصل الصلاة لوقتها الموقت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال، واعلم أن كل شئ من عملك تبع صلاتك، فإنه لا سواء إمام الهدى وإمام الردى وولي النبي وعدو النبي، ولقد سمعت جدي رسول الله (ص) يقول: إني لا أخاف أمتي مؤمنا ولا مشركا، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيمنعه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.