الله سبحانه عباده بقوله:
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس) آل عمران: ١٨٧.
وبقوله: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا - إلى قوله - أولئك يلعنهم الله) البقرة: ١٥٩.
فقد انقطعت أحكام الكتاب والسنة، وارتفعت من بين العباد، ولم يبق إلا مجرد تلاوة القرآن، ودرس كتب السنة. ولا سبيل إلى التعبد بشئ مما فيهما.
ومن زعم عند هؤلاء الجهلة أنه يقضي أو يفتي بما فيهما، أو يعمل لنفسه بشئ مما اشتملا عليه فدعواه باطلة وكلامه مردود.
فانظر إلى هذه الفاقرة العظمى، والداهية الدهياء، والجهالة الجهلاء والبدعة العمياء الصماء!!!
سبحانك هذا بهتان عظيم.
وإن زعموا أن هذا الصنيع منهم ليس هو بمعنى ما ذكرنا من نسخ الكتاب والسنة، ورفع التعبد بهما فقل لهم فما بقي بعد قولكم هذا؟!
فإنكم قد قلتم ليس للناس إلا التقليد، ولا سبيل لهم إلى غيره، وأن الاجتهاد قد انسد بابه، وبطلت دعوى من يدعيه، وامتنع فضل الله على عباده وانقطعت حجته!!!.
وهذا مع كونه من الإفك البين قد اختلفت فيه أنظار هؤلاء المقلدة اختلافا كثيرا.
فقالت طائفة منهم:
ليس لأحد أن يجتهد " بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر ابن الهذيل، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن بن زياد اللؤلؤي ".
وإلى هذا ذهب كثير من المقلدة من الحنفية لا وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي:
" ليس لأحد أن يجتهد " بعد المأتين من الهجرة.
وقال آخرون:
ليس لأحد أن يجتهد بعد الشافعي.
وقد ذكرنا بعض هذا الباطل البين، والإفك الصريح في رسالتنا سميناها:
" القول المفيد ف حكم التقليد ".
وهؤلاء وإن كانوا خارجين عن زمرة العلماء بالإجماع حسبما نقلناه فيما تقدم، وليسوا مما يستحق الاشتغال بما قاله، وتطويل الكلام في الرد عليه لأنهم في عداد أهل الجهل لا يرتفعون عن طبقتهم بمجرد حفظهم لرأي من قلدوه، لكنهم لما طبقت بدعتهم أقطار الأرض وصاروا هم السواد الأعظم، وكان غالب القضاة والمفتين منهم وكذلك سائر أهل المناصب، فإنهم مشاركون لهم في الجهل بما شرعه الله لعباده صاروا أهل الشوكة والصولة، وليس للعابة بصيرة يعرفون بها أهل العلم، وأهل الجهل ويميزون بين منازلهم. وغاية ما عندهم أنهم ينظرون إلى أهل المناصب، وإلى المتجملين بالثياب الرقيقة. فإن دققوا النظر نظروا إلى المدرسين في العلم. وهم عند أهل النظر يرون شيخ علم الرأي قد اجتمع عليه الجم الغفير من المقلدة ولهم صراخ وعويل وجلبة وقد استغرقوا، هم وشيوخهم في المدارس والجوامع ولا يرون لشيخ علم الكتاب والسنة أثرا ولا خبرا، فإن درس شيخ من شيوخهم في مدرسة أو جامع فهو في زاوية من زواياه يقعد بين يديه الرجل والرجلان وهم في سكينة ووقار، لا يلتفت إليهم ملتفت، ولا يتطلع لأمرهم متطلع، فماذا يرى العامي عند هذا النظر، ما ذاك يخطر بباله؟ ويغلب على ظنه؟ وإلى من يميل ولمن يحكم بالعلم؟ على من يلقى مقاليد من ينوبه من أمر دينه ودنياه فلهذه النكتة احتجنا إلى هذا الكلام في هذا المؤلف وغيره من مؤلفاتنا. وإلا فهم أحقر من أن يشتغل بشأنهم أو يعبأ بما يصدر منهم من الجهل المكشوف والذي لا يكاد يلبس على من لديه لم وأقل تمييز.
أنظر: ولاية الله والطريق إليها. ص 327 طبع القاهرة عام 1389 ه (دراسة وتحقيق لكتاب:
" قطر الولي على حديث الولي للإمام الشوكاني طبعة دار الكتب الحديثة ". طبعة مصر).
وللإمام الشوكاني يا ناقدا لمقال ليس يفهمه * من ليس يفهم قل لي كيف تنقد؟
يا صاعدا في وعور ضاق مسلكها * أيصعد الوعر من في السهل يرتعد؟
يا ماشيا في فلاة لا أنيس بها * كيف السبيل إذا ما اغتالك الأسد؟
يا خائض البحر لا يدري سبحاته * - ويلي عليك - أتنجو إن على الزبد؟
ومنها:
إني بليت بأهل الجهل في زمن * قاموا به ورجال العلم قد قعدوا قوم يدق جليل القول أنهم * أعدى العداة لمن في علمه سدد إذا رأوا رجلا قد نال مرتبة * في العلم دون الذي يدرونه جحدوا أو مال عن زائف الأقوال ما تركوا * بابا من الشر إلا نحوه قصدوا أما الحديث الذي قد صح مخرجه * كالأمهات فما فيهم لها ولد تراهم إن رأوا من قال حدثنا * قالوا له ناصبي ما له رشد وإن ترضى على الأصحاب بينهم * قالوا له باغض للآل مجتهد يا غارقين بشؤم الجهل في بدع * ونافرين عن الهدى القويم هدوا ما باجتهاد فتى في العلم منقصة * النقص في الجهل لا حياكم الصمد لا تنكروا موردا عذبا لشاربه * إن كان لا بد من إنكاره فردوا وإن أبيتم فيوم الحشر موعدنا * في موق المصطفى والحاكم الأحد جاء ذكر هذه الأبيات تحت عنوان: جهاد الشوكاني للمقلدين في كتاب:
" ولاية الله والطريق إليها ص 330 ".
ومن كلام الزمخشري (رض) (*):
إذا سألوا عن مذهبي لم أيح به * وأكتمه كتمانه لي أسلم فإن حنفيا قلت قالوا بأنني * أبيح الطلا وهو الشراب المحرم وإن مالكيا قلت قالوا بأنني * أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم وإن شافعيا قلت قالوا بأنني * أبيح نكاح البنت والبنت تحرم وإن حنبليا قلت قالوا بأنني * ثقيل حلولي بغيض مجسم وإن قلت من أهل الحديث وحزبه * يقولون تيس ليس يدري ويفهم تعجبت من هذا الزمان وأهل * فما أحد من ألسن الناس يسلم وأخرني دهري وقدم معشرا * على أنهم لا يعلمون وأعلم ومذ أفلح الجهال أيقنت أنني * أنا الميم والأيام أفلح (*) أعلم (*) (*) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزميالزمخشري ولد يوم الأربعاء 27 من شهر رجب سنة 468 ه سبعا وستين وأربعمائة بزمخشر وزمخشر بفتح الزاي والميم وسكون الخاء وفتح الشين المعجمتين وبعدها راء: قرية كبيرة من قرى " خوارزم " وتوفي رحمه الله ليلة عرفة سنة 583 ه بجرجانية بعد رجوعه من مكة.
مصنفاته: منها: تفسير الكشاف المسمى حقائق التنزيل وعيون الأقاويل المفرد المركب في العربية، الفائق في تفسير الحديث، أساس البلاغة المفصل في النحو وغيرها.
أنظر: تفسير الكشاف: 4 / 307.
(*) الأعلم والأفلح هو مشقوق الشفتين الأعلى والأسفل ولا يستطيع النطق بحرف (الميم).
(*) تفسير الكشاف: 4 / 310 طبعة مصر.