ه - خطبة لعمرو في هذا الجامع وقبل أن نختم كلمتنا نأتي بإحدى خطب عمرو بن العاص في هذا الجامع. أخرج أبو المحاسن عن ابن عبد الحكم عن سعيد بن ميسرة المعافري قال:
رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة، وذلك آخر الشتاء بعد خميس النصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع، إذ أقبل الرجال بأيديهم السياط يزجرون الناس فذعرت فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ قال: يا بني هؤلاء الشرط. فأقام المؤذنون الصلاة فقال عمرو بن العاص على المنبر، فرأيت رجلا ربعة، قصير القامة، وافر الهامة، أدعج أبلج عليه ثياب موشاة كان به العقبان تأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة، فحمد الله وأثنى عليه حمدا موجزا، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحض على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفضول، وكثرة العيال وإخفاض الحال فقال:
يا معشر الناس إياكم وخلالا أربعا، فإنها تدعوا إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذلة بعد العزة: إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير درك ولا نوال، ثم لا بد من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد (1) والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء فراغه نصيب العلم من نفسه، فيجوز من الخير عاطلا، وعن حلال الله وحرامه باطلا. يا معشر الناس: إنه قد تدلت الجوزاء، وزلت الشعرى، وأقلعت السماء (2) وارتفع