تعالى شرفا، لم تكن لمن قبلنا، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم، وجماهير العلماء، وقاله الحافظ في الفتح، وجزم بذلك ابن حبيب، وغيره من المالكية، ونقله صاحب (العمدة) من الشافعية عن الجمهور ورجحه، قال: وسميت ليلة القدر أي: ليلة الحكم، والفصل، وقيل: لعظم قدرها، قال: ويراها من شاء الله تعالى من بني آدم، كما تظاهرت عليه الأحاديث، وأخبار الصالحين، قال: وأما قول المهلب بن أبي صفرة الفقيه المالكي: لا يمكن رؤيتها حقيقة، فغلظ. انتهى.
وقال مالك في (الموطأ): بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر خيرا من ألف شهر.
روى الديلمي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان الله وهب لامتي ليلة القدر، ولم يعطها أحدا ممن كان قبلكم).
وروى ابن أبي حاتم عن عروة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعا من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين، فعجب الصحابة من ذلك، فأتاه جبريل، فقال: قد أنزل الله تبارك وتعالى عليك خيرا من ذلك ليلة القدر خيرا من ألف شهر، هذا أفضل من ذلك، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه.
وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق، عن مجاهد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه ذكر رجلا من بني إسرائيل كان يقوم الليل حتى يصبح، ويجاهد القوم بالنهار حتى يمسي، فعل ذلك ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية:
(ليلة القدر خير من ألف شهر) (القدر 2)، فقيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر.
قلت: أشار الحافظ في الفتح إلى تضعيف قول من قال، انها خاصة بهذه الأمة، قال:
وعمدة من قال بهذا القول أثر مالك إلى السابق، وهو محتمل للتأويل فلا يدفع التصريح من حديث أبي ذر عند النسائي قال: قلت يا رسول الله أتكون مع الأنبياء، فإذا ماتوا رفعت أم هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي باقية إلى يوم القيامة.
قال شيخنا في شرح الموطأ: وهذا الحديث الذي ذكره أيضا محتمل التأويل، وهو أن مراده هل يختص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم أم ترفع بعد موته بقرينة مقابلة ذلك بقوله: أم هي باقية إلى يوم القيامة، فلا يكون فيه معارضة لاثر الموطأ.
وقد ورد ما يعضده، ففي فوائد أبي طالب المكي من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الله تعالى وهب لامتي ليلة القدر ولم يعطها من كان قبلهم).