والجهاد سنام العمل، وقد علمتم أن للدنيا تجارا وللآخرة تجارا (1)، فأما تاجر الدنيا فإنه مكب عليها راتع فيها، لا يبتغي بها بدلا، وأما تاجر الآخرة فإنه ساع لثوابها لا يشتري بها ثمنا قليلا، ويؤمل منها ثوابا جزيلا، يظل قائما وقاعدا، ويبيت راكعا وساجدا، لا يطلب فضة ولا ذهبا، ولا وفرا ولا نسبا، ثم قال: أيها الناس! إنا مدلجون الليل من منزلنا إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله.
قال: ثم أدلج سليمان بالناس ليلة الجمعة من شهر ربيع الآخر لخمس مضين منه (2) حتى نزل على شاطئ الفرات بموضع يقال له أقساس (3) من بني مالك، ثم إنه عرض الناس هنالك فإذا به قد نقص منهم ألف ومائة رجل - زيادة أو نقصانا، فقال سليمان بن صرد: والله ما أحب من تخلف عنكم أن يكون معكم، لأنهم لو كانوا معكم ما زادوكم إلا خبالا، فاحمدوا الله على رجعتهم عنكم.
قال: وسار القوم من ليلتهم تلك إلى أن أصبحوا [و] أشرفوا على قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، فلما عاينوه رفعوا أصواتهم بالبكاء والنحيب، ثم إنهم رموا أنفسهم عن دوابهم وجعلوا يقولون: اللهم! إنا خذلنا ابن بنت نبينا وقد أسأنا وأخطأنا، فاغفر لنا ما قد مضى من ذنوبنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم ارحم الحسين الشهيد ابن الشهيد! وارحم إخواننا الذين حصنوا أنفسهم بالشهادة، اللهم! إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
قال: ثم تقدم رجل من خيار أهل الكوفة يقال له وهب بن زمعة الجعفي حتى وقف على القبر باكيا، ثم قال: والله لقد جعله (4) الأعداء للسيل عرضا وللسباع مطعما! فلله حسين ولله يوم حسين! لقد غادروا منه يوم وافوه ذا وفاء وصبر وعفاف وبأس وشدة وأمانة ونجدة ابن أول المؤمنين وابن بنت نبي رب العالمين، قلت حماته وكثرت عداته، فويل للقاتل، وملامة للخاذل! إن الله تبارك وتعالى لم يجعل للقاتل حجة ولا للخاذل معذرة، إلا أن يناصح الله في التوبة فيجاهد الفاسقين، فعسى الله عند ذلك يقبل التوبة ويقيل العثرة، قال: ثم أنشأ يقول: