وقال آخر: يا حبذا جسر على متن دجلة * بإتقان تأسيس وحسن ورونق جمال وحسن للعراق ونزهة * وسلوة من أضناه فرط التشوق تراه إذا ما جئته متأملا * كسطر عبير خط في وسط مهرق أو العاج فيه الأبنوس مرقش * مثال فيول تحتها أرض زئبق وذكر الصولي، قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد أن ذرع بغداد من الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب، وأن الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا وأن عدة حماماتها ستون ألف حمام، وأقل ما في كل حمام منها خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء، وأن بإزاء كل حمام خمسة مساجد، فذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وأقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر - يعني إماما وقيما ومأذونا ومأمومين - ثم تناقصت بعد ذلك، ثم دثرت بعد ذلك حتى صارت كأنها خربة صورة ومعنى. على ما سيأتي بيانه في موضعه.
وقال الحافظ أبو بكر البغدادي: لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتمييز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها، وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، ثم ذكر تناقص أحوالها وهلم جرا إلى زمانه. قلت: وكذا من بعده إلى زماننا هذا، ولا سيما في أيام هولاكو بن تولى بن جنكز بن خان التركي الذي وضع معالمها وقتل خليفتها وعالمها وخرب دورها وهدم قصورها وأباد الخواص والعوام من أهلها في ذلك العام، وأخذ الأموال والحواصل، ونهب الذراري والأصائل، وأورث بها حزنا يعدد به في المبكرات والأصائل، وصيرها مثلة في الأقاليم، وعبرة لكل معتبر عليم، وتذكرة لكل ذي عقل مستقيم، وبدلت بعد تلاوة القرآن بالنغمات والألحان، وإنشاد الاشعار، وكان، وكان. وبعد سماع الأحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية، والمناهج الكلامية والتأويلات القرمطية، وبعد العلماء بالأطباء، وبعد الخليفة العباسي بشر الولاة من الاناسي، وبعد الرياسة والنباهة بالخساسة والسفاهة، وبعد الطلبة المشتغلين بالظلمة والعيارين، وبعد العلم بالفقه والحديث وتعبير الرؤيا، بالموشح ودوبيت ومواليا. وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم (وما ربك بظلام للعبيد) [فصلت: 46] والتحول منها في هذه الأزمان لكثرة ما فيها من المنكرات الحسية والمعنوية، وأكل الحشيشة، والانتقال عنها إلى بلاد الشام الذي تكفل الله بأهلها أفضل وأكمل وأجمل. وقد روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، وشرار أهل الشام إلى العراق " (1).