جوعا، فإنه ببلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح. وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودعه: يا عيسى! إني أبعثك إلى جنبي هذين، فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك وناد في الناس بالأمان وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم أعلم بمذاهبه. وكتب معه كتبا إلى رؤساء قريش والأنصار من أهل المدينة يدفعها إليهم خفية يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة. فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينة بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبد الله بن حسن فوجدوا معه تلك الكتب فدفعوها إلى محمد فاستحضر جماعة من أولئك فعاقبهم وضربهم ضربا شديدا وقيدهم قيودا ثقالا، وأودعهم السجن. ثم إن محمدا استشار أصحابه بالقيام بالمدينة حتى يأتي عيسى بن موسى فيحاصرهم بها، أو أنه يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق؟
فمنهم من أشار بهذا، ومنهم من أشار بذاك، ثم اتفق الرأي على المقام بالمدينة، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ندم يوم أحد على الخروج منها، ثم اتفقوا على حفر خندق حول المدينة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فأجاب إلى ذلك كله، وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك وكبروا وبشروه بالنصر. وكان محمد حاضرا عليه قباء أبيض وفي وسطه منطقة، وكان شكلا ضخما أسمر عظيم الهامة.
ولما نزل عيسى بن موسى الأعوص واقترب من المدينة، صعد محمد بن عبد الله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد - وكانوا قريبا من مائة ألف - فقال لهم في جملة ما قال: إني جعلتكم في حل من بيعتي، فمن أحب منكم أن يقيم عليها فعل. ومن أحب أن يتركها فعل. فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه، ولم يبق إلا شرذمة قليلة معه، وخرج أكثر أهل المدينة بأهليهم منها لئلا يشهدوا القتال بها، فنزلوا الاعراض ورؤوس الجبال. وقد بعث محمد أبا الليث (1) ليردهم عن الخروج فلم يمكنه ذلك في أكثرهم، واستمروا ذاهبين. وقال محمد لرجل أتأخذ سيفا ورمحا وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة؟ فقال: نعم إن أعطيتني رمحا أطعنهم وهم بالاعراض، وسيفا أضربهم وهم في رؤوس الجبال فعلت. فسكت محمد ثم قال لي: ويحك؟ إن أهل الشام والعراق وخراسان قد بيضوا - يعني لبسوا البياض - موافقة لي وخلعوا السواد. فقال: وماذا ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيضاء - وأنا في مثل صوفة الدواة، وهذا عيسى بن موسى نازل بالأعوص. ثم جاء عيسى بن موسى فنزل قريبا من المدينة، على ميل منها، فقال له دليله ابن الأصم: إني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعوا إلى معسكرهم سريعا قبل أن تدركهم الخيل. ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك على أربعة أميال من المدينة، وذلك يوم السبت لصبح اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة. وقال: إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة فتدركه الخيل.
وأرسل عيسى بن موسى خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكة، وقال لهم هذا