وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي (1) - وقد كان أوحد أهل زمانه - في جماعة من الأمراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما يقدر عليه، وأن يكون في جملة ما يكلمه به أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والاطلاقات لك، فإن جاء بهذا فذاك، وإن أبي فقل هو برئ من العباس إن شققت العصا وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك. ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن. فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما هم به من منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغبوه في الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه، وجنوده طوعا له، فإن استقام له الخليفة وإلا كان في عز ومنعة من الجند. فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم: ارجعوا إلى صاحبكم فلست ألقاه. فلما استيأسوا منه قالوا له ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به. فلما سمع ذلك كسره جدا وقال قوموا عني الساعة.
وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين اتهم: إن ولاية خراسان لك ما بقيت، فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم. فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة: إنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجع إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام. فزاده ذلك كسرا أيضا فبعث إليهم أبو مسلم: إني سأبعث إليه أبا إسحاق وهو ممن أثق به. فبعث أبا إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده. فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له: ما وراءك؟ قال: رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك. فغره ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميرا يقال له نيزك، فنهاه، فصمم على الذهاب، فلما رآه نيزك عازما على الذهاب تمثل بقول الشاعر:
ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام ثم قال له: احفظ عني واحدة. قال: وما هي؟ قال: إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم إلى المنصور يعلمه بقدومه عليه. قال أبو أيوب كاتب الرسائل: فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر، وبين يديه كتاب فألقاه إلى فإذا هو كتاب أبي مسلم يعلمه بالقدوم عليه، ثم قال الخليفة: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. قال أبو أيوب: فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون. وبت تلك الليلة لا يأتيني نوم، أفكر في هذه الواقعة، وقلت: إن دخل أبو مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة تقتضي أن