المزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء؟ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم. فاستحى الشافعي منه.
وروى أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه ولا يكلمهم أيضا، لأنهم أخذوا جائزة السلطان. ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعا فقال: ما هذه العجلة! كيف خبزتم؟ فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه. فقال: ارفعوا، ولم يأكل وأمر بسد بابه إلى دار صالح. قال البيهقي: لان صالحا أخذ جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله. وقال عبد الله ابنه: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما لم يأكل فيها إلا ربع مد سويقا، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه حتى رجع إلى بيته، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر. وقد رأيت موقيه دخلا في حدقتيه. قال البيهقي: وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع وكان أحمد لا يتناول منها شيئا. قال: وبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث فما بقي منهم أحد إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى.
وقال سليمان الشاذكوني: حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامي (1) باليمن، فلما جاءه بفكاكه أخرج له سطلين فقال: خذ متاعك منهما. فاشتبه عليه أيهما له فقال: أنت في حل منه ومن الفكاك، وتركه وذهب. وحكى ابنه عبد الله قال: كنا في زمن الواثق في ضيق شديد، فكتب رجل إلى أبي: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها. فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي: لو كنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا. وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه. ونفدت نفقة أحمد وهو في اليمن فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير فقال: نحن في كفاية ولم يقبلها. وسرقت ثيابه وهو باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب وفقده أصحابه فجاؤوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحدا ليكتب لهم به فكتب لهم بالاجر رحمه الله. وقال أبو داود. كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شئ من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط. وروى البيهقي أن أحمد سئل عن التوكل فقال: هو قطع الاستشراف باليأس من الناس، فقيل له: هل من حجة على هذا؟ قال: نعم!
إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال: هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فسل من لك إليه حاجة. فقال: أحب الامرين إلي أحبهما إليه.
وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال: كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا: ادع الله لنا فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائما. ثم سكت. فقلنا: