وساغ جعل جميعها أصولا دل على انه حكم به من جهة الوحي وهذا الدليل ليس بصحيح لأنه لا يمتنع أن يقال ان في احكامه ما حكم به (من) جهة الاجتهاد ومع ذلك لا يسوغ مخالفته من حيث أوجب الله تعالى اتباعه وسوى في اتباعه ذلك بين ما قاله بوحي وبين ما قاله من جهة الاجتهاد كما يقول من قال ان الأمة يجوز أن تجمع على حكم من طريق الاجتهاد وان كان لا يجوز خلافه وإذا ثبت ذلك لم يمكن التعلق بما حكيناه ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى فحكم بان جميع ما يقوله وحى يوحى فينبغي أن لا يثبت ذلك من جهة الاجتهاد والمعتمد ما قلناه أولا من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد في جميع المكلفين وعلى جميع الأحوال فاما من حضر النبي (ع) فذهب أبو علي إلى انه لا يجوز أن يجتهد ويجوز ذلك لمن غاب ومن الناس من يقول ان لمن حضر النبي (ع) أيضا ان يجتهد ويستدل على ذلك بخبر يروى ان النبي (ع) امر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر ان يقضيا بحضرته بين خصمين وقال لهما ان أصبتما فلكما عشر حسنات وان أخطأتما فلكما حسنة وهذا خبر ضعيف من اخبار الآحاد التي لا يعتمد في مثل هذه المسألة لان طريقها العلم والمعتمد في هذه المسألة أيضا ما قدمناه من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد وذلك عام في جميع الأحوال الكلام في الحظر والإباحة فصل في ذكر حقيقة الحظر والإباحة والمراد بذلك اعلم ان معنى قولنا في الشئ انه محظور انه قبيح لا يجوز له فعله الا انه لا يسمى بذلك الا بعد أن يكون فاعله اعلم حظره أو دل عليه ولاجل هذا لا يقال في افعال الله تعالى انها محظورة لما لم يكن اعلم قبحها ولا دل عليه وان كان في افعاله ما لو فعله لكان قبيحا فكذلك لا يقال في افعال البهايم والمجانين انها محظورة لما لم يكن هذه الأشياء اعلم قبحها ولا دل عليه ومعنى قولنا انه مباح ليس له صفة زايدة على حسنه ولا يوصف بذلك الا بالشرطين الذين ذكرناهما من اعلام حسن فاعله ذلك أو دلالته عليه وكذلك لا يقال ان فعل الله تعالى العقاب باهل النار مباح لما لم يكن اعلمه ولا دل عليه وان لم يكن لفعله العقاب صفة زايدة على حسنه وهو هي كونه مستحقا وكذلك لا يقال في افعال البهايم انها مباحة لعدم هذين الشرطين ولاجل ذلك نقول أن المباح يقتضى مبيحا والمحظور يقتضى حاضرا وقد قيل في حد المباح هو ان لفاعله أن ينتفع به ولا يخاف ضررا في ذلك لا عاجلا ولا اجلا وفي حد الحظر انه ليس له الانتفاع به وان عليه في ذلك ضررا اما عاجلا أو اجلا وهذا يرجع إلى المعنى الذي قلناه فصل في ذكر بيان الأشياء التي يقال انها على الحظر والإباحة والفصل بينهما وبين غيرها والدليل على الصحيح من ذلك افعال المكلف لا تخلو من أن تكون حسنة أو قبيحة والحسنة لا تخلو من أن تكون واجبة أو ندبا أو مباحا وكل فعل جهة قبحه بالعقل على التفصيل فلا خلاف بين أهل العلم المحصلين في انه على الخطر (الحظر) وذلك نحو الظلم والكذب والعبث والجهل وما شاكل ذلك وما يعلم جهة وجوبه على التفصيل فلا خلاف أيضا انه على الوجوب وذلك نحو وجوب رد الوديعة وشكر المنعم والانصاف وما شاكل ذلك وما يعلم جهة كونه ندبا فلا خلاف أيضا انه على الندب وذلك نحو
(١١٧)