الامر وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا كما قاله قتادة وغير واحد. وقد تقدم قوله جل وعلا " عينا يشرب بها عباد الله " وقال ههنا " عينا فيها تسمى سلسبيلا " أي الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا قال عكرمة: اسم عين في الجنة وقال مجاهد سميت بذلك لسلاسة مسيلها وحدة جريها وقال قتادة عين فيها تسمى سلسبيلا عين سلسة مستقيد ماؤها وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق واختار هو أنها تعم ذلك كله وهو كما قال. وقوله تعالى (ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة " مخلدون " أي على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن ومن فسرهم بأنهم مخرصون في آذانهم الأقرطة فإنما عبر عن المعنى بذلك لان الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير " وقوله تعالى " إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا " أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ما عليه صاحبه. وقوله جل وعلا (وإذا رأيت) أي وإذا رأيت يا محمد " ثم " أي هناك يعني في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور " رأيت نعيما وملكا كبيرا " أي مملكة لله هناك عظيمة وسلطانا باهرا. وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا إليها: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألف سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه " فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة فما ظنك بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى. وقد روى الطبراني ههنا حديثا غريبا جدا فقال حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد بن عمار الموصلي حدثنا عقبة بن سالم عن أيوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " سل واستفهم " فقال يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به إني لكائن معك في الجنة قال " نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة " فقال رجل كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لاثقله فتقوم النعمة أو نعم الله فتكاد تستنفذ ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته " ونزلت هذه السورة " هل أتى على الانسان حين من الدهر - إلى قوله - ملكا كبيرا " فقال الحبشي وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال " نعم " فاستبكى حتى فاضت نفسه قال ابن عمر ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده.
وقوله جل جلاله " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق " أي لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم والاستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر كما هو المعهود في اللباس " وحلوا أساور من فضة " وهذه صفة الأبرار وأما المقربون فكما قال تعالى " يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير " ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما فأذهب الله ما في بطونهم من أذى ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فأخبر سبحانه وتعال بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن وقوله تعالى (إن هذا كان لكم جزاءا وكان