البهتان والفجور فقال " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون " أي لست بحمد الله بكاهن كما تقول الجهلة من كفار قريش والكاهن الذي يأتيه الرأي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء " ولا مجنون " وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " أي قوارع الدهر والمنون الموت يقولون ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه قال الله تعالى " قل تربصوا فإني معكم من المتربصين " أي انتظروا فإني منتظر معكم وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة. قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما إن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " ثم قال تعالى " أم تأمرهم أحلامهم بهذا " أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور " أم هم قوم طاغون " أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك.
وقوله تعالى " أم يقولون تقوله " أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن قال الله تعالى " بل لا يؤمنون " أي كفرهم هو الذي حملهم على هذه المقالة (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله ولا بعشر سور من مثله ولا بسورة من مثله.
أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلام يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39) أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون (43) هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى " أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون " أي أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا. قال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال حدثني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية " أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون " كاد قلبي أن يطير وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى وكان إذ ذاك مشركا فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الاسلام بعد ذلك. ثم قال تعالى (أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) أي أهم خلقوا السماوات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك (أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن " أم هم المسيطرون " أي المحاسبون للخلائق؟ ليس الامر كذلك بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد. وقوله تعالى " أم لهم سلم يستمعون فيه " أي مرقاة إلى الملا الاعلى