بعضا في الدنيا وفي الآخرة، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون، فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه، وما أبين الفرق بين الولايتين، ولما بين الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة، قال: * (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) * وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية، والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحا وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن، ولم بين لله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم، بين الفرق بينهما من وجه آخر، فقال: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) * وفيه مباحث: البحث الأول: * (أم) * كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفا على شيء آخر، سواء كان ذلك المعطوف مذكورا أو مضمرا، والتقدير ههنا: أفيعلم المشركون هذا، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين؟ البحث الثاني: الاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم، قال تعالى: * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) * (الأنعام: 60). البحث الثالث: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: وا ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.
واعلم أن لفظ * (حسب) * يستدعي مفعولين أحدهما: الضمير المذكور في قوله * (أن نجعلهم) * والثاني: الكاف في قوله * (كالذين آمنوا) * والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا؟ ونظيره قوله تعالى: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * (السجدة: 18) وقوله * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) * (غافر: 51، 52) وقوله تعالى: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * م لكم كيف تحكمون) * (القلم: 35، 36) وقوله * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 28).
ثم قال تعالى: * (سواء محياهم ومماتهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (سواء) * بالنصب، والباقون بالرفع، واختيار أبي عبيد النصب، أما وجه القراءة بالرفع، فهو أن قوله * (محياهم ومماتهم) * مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله * (أم نجعل) * وهو الكاف في قوله * (كالذين آمنوا) * ونظيره قوله: ظننت زيدا أبوه منطلق، وأما وجه القراءة بالنصب