بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين، فقل * (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) * والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكون مغايرا لصاحبه، أما الكتاب فهو التوراة، وأما الحكم ففيه وجوه، يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه، وأما النبوة فمعلومة، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى: * (ورزقناهم من الطيبات) * وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى، ولما بين تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيبا وافرا، قال: * (وفضلناهم على العالمين) * يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم، فلهذا المعنى قال المفسرون المراد: وفضلناهم عن عالمي زمانهم.
ثم قال تعالى: * (وآتيناهم بينات من الأمر) * وفيه وجوه الأول: أنه آتاهم بينات من الأمر، أي أدلة على أمور الدنيا الثاني: قال ابن عباس: يعني بين لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث: المراد * (وآتيناهم بينات) * أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم، والمراد معجزات موسى عليه السلام.
ثم قال تعالى: * (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * وهذا مفسر في سورة * (حم * عسق) * (الشورى: 1، 2) والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة، لأن حصول العم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع.
ثم قال تعالى: * (إن ربك يفصل بينهم يوم القيامة فيم كانوا فيه يختلفون) * والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه، وذلك كالزجر لهم، ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والحسد، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعدل عن تلك الطريقة، وأن يتمسك بالحق، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق، فقال تعالى: * (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) * أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل، قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال تعالى: * (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) * أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقا للعذاب، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، ثم بين تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم