إصرارهم على كفرهم، ثم بين أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر على هذه القصة، ثم بين كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل، ثم رجع إلى الحديث الأول، وهو كون كفار مكة منكرين للبعث، فقال: * (أن هؤلاء ليقولون، إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين) * فإن قيل القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقهم أن يقولوا: إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ قلنا إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة، كما أنكم حال كونكم نطفا كنتم أمواتا وقد تعقبها حياة، وذلك قوله * (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، فقالوا إن هي إلا موتتنا الأولى) * يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة لها إلا الموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذا بين هذا الكلام وبين قوله * (إن هي إلا حياتنا الدنيا) * هذا ما ذكره صاحب " الكشاف ".
ويمكن أن يذكر فيه وجه آخر، فيقال قوله * (إن هي إلا موتتنا الأولى) * يعني أنه لا يأتينا شيء من الأحوال إلا الموتة الأولى، فهذا الكلام يدل على أنهم لا تأتيهم الحياة الثانية البتة، ثم صرحوا بهذا المزمور فقالوا * (وما نحن بمنشرين) * فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره صاحب " الكشاف ".
ثم قال تعالى: * (وما نحن بمنشرين) * يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا بعثهم، ثم إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشور ممكنا معقولا فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بأن تسألوا ربكم ذلك، حتى يصير ذلك دليلا عندنا على صدق دعواكم في النبوة والبعث في القيامة، قيل طلبوا من الرسول لله أن يدعو الله حتى ينشر قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي صحة البعث، ولما حكى عنهم ذلك قال: * (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مرجمين) * والمعنى أن كفار مكة لم يذكروا في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يحتاج إلى الجواب عنها، ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار، فلهذا السبب اقتصر لله تعالى على الوعيد، فقال إن سائر الكفار كانوا أقوى من هؤلاء، ثم إن الله تعالى أهلكهم فكذلك يهلك هؤلاء، فقوله تعالى: * (أهم خير أم قوم تبع) * استفهام على سبيل الإنكار، قال أبو عبيدة: ملوك اليمن كان كل واحد منهم يسمى تبعا لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه، وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم من ملوك العرب قالت عائشة، كان تبع رجلا صالحا، وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، قال الكلبي هو أبو كرب أسعد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي " فإن قيل ما معنى قوله * (أهم خير أم قوم تبع) * مع أنه لا خير في الفريقين؟ قلنا معناه أهم خير في القوة والشوكة، كقوله * (أكفاركم خير من أولئكم) * (القمر: 43) بعد ذكر آل فرعون، ثم إنه تعالى ذكر الدليل القاطع على القول بالبعث والقيامة، فقال: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) *