* (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) * (النساء: 29) وقال: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) والامتناع من الأكل سعى في قتل النفس وإلقاء النفس في التهلكة، فوجب أن يحرم وثالثها: روي أنه عليه السلام رخص للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع ورابعها: أن العاصي بسفره إذا كان نائما فأشرف على غرق أو حرق يجب على الحاضر الذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه من الغرق أو الحرق فلأن يجب عليه في هذه الصورة أن يسعى في إنقاذ المهجة أولى وخامسها: أن يدفع أسباب الهلاك، كالفيل، والجمل الصؤل، والحية، والعقرب، بل يجب عليه، فكذا ههنا وسادسها: أن العاصي بسفره إذا اضطر فلو أباح له رجل شيئا من ماله فإنه يحل له ذلك بل يجب عليه فكذا ههنا والجامع دفع الضرر عن النفس وسابعها: أن المؤنة في دفع ضرر الناس أعظم في الوجوب من كل ما يدفع المرء من المضار عن نفسه، فكذلك يدفع ضرر الهلاك عن نفسه بهذا الأكل وإن كان عاصيا، وثامنها: أن الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا أجاب الشافعي عن التمسك بالعمومات بأن دليلنا النافي للترخص أخص من دلائلهم المرخصة والخاص مقدم على العام، وعن الوجوه القياسية بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة وإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه، ثم عارض هذه الوجوه بوجه قوي وهو أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية وذلك محال لأن المعصية ممنوع منها والإعانة سعي في تحصيلها والجمع بينهما متناقص والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وقال عبد الله بن الحسن العنبري: يأكل منها ما يسد جوعه، وعن مالك: يأكل منها حتى يشبع ويتزود، فإن وجد غني عنها طرحها، والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة، كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال، فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم، ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري، لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه، فكذا ههنا، ويدل عليه أيضا أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة، فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة، فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر وجب أن