ثم كر على تلك الاعتراضات فنقضها، وفصل القول في تأويل الآيات الكثيرة التي أوردها. وبين أسرار بلاغتها تبيينا ترتاح إليه القلوب، وتطمئن له العقول.
ثم قال: " وفى إعجاز القرآن وجه آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم. وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى - ما يخلص منه إليه.
تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها من الخوف والفرق ما تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب. يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها. فكم من عدو للرسول، صلى الله عليه وسلم، من رجال العرب وفتاكها، أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا " ثم أورد من المثل التاريخية، والآيات القرآنية ما هو مصداق لما وصفه من أمر القرآن. وكان ذلك خاتمة الكتاب.
ثم ألف بعد الرماني والخطابي معاصرهم أبو بكر الباقلاني، كتابه " إعجاز القرآن " * * * الباقلاني وإعجاز القرآن:
هو أبو بكر: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالباقلاني، أو ابن الباقلاني.
ولد بالبصرة، ولم يعين أحد من المؤرخين عام ولادته، وقد تلقى العلم على أعلامها، ثم رحل إلى بغداد فأخذ من علمائها، ثم اتخذها دارا لإقامته، حتى قضى نحبه فيها ولم يذكر أحد كذلك متى رحل إليها أول ما رحل، ولا متى اتخذها مستقرا؟
وقد أتيح للباقلاني أن يتتلمذ لطائفة من العلماء الذين جمعوا بين العلم والعمل،