فقال: (فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) من غير تعيين. فدل على أن المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه " ثم ذكر الرأي الرابع الذي ذهب إليه الأكثرون من علماء أهل النظر، وهو أن إعجازه من جهة " البلاغة " وقال: " ووجدت عامة أهل هذه المقالة، قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد، وضرب من غلبة الظن، دون التحقيق له، وإحاطة العلم به. ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي اختص بها القرآن، وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة - قالوا: لا يمكننا تصويره، ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام: وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة، لا يمكن تحديده. وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به - عند سماعه - معرفة ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه. وقد يخفى سببه عند البحث، ويظهر أثره في النفس، حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع، وهشاشة في النفس، لا يوجد مثلها لغيره، والكلامان معا فصيحان، ثم لا يوقف لشئ من ذلك على علة " ثم عقب الخطابي على ذلك بقوله: " وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على إبهام " ثم ذكر أن دقيق النظر، وشاهد العبر، قد دلاه على ما يباين به القرآن سائر الكلام، وأن العلة في ذلك: " أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية. فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق الرسل. وهذه أقسام الكلام الفاضل. فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه. فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة. وهما على الانفراد في نعوتهما
(مقدمة المحقق ١٤)