بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة. فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لان الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار وعند تباين الوجوه، واختلاف الأسباب التي يتضمن.
* * * ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.
ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه. حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري، مع جودة نظمه، وحسن وصفه - في الخروج من النسيب إلى المديح. وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشئ، وإنما اتفق له - في (1) مواضع معدودة - خروج يرتضى، وتنقل يستحسن.
/ وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شئ إلى شئ، والتحول من باب إلى باب. ونحن نفصل بعد هذا، ونفسر هذه الجملة، ونبين (2) أن القرآن - على اختلاف [فنونه و] ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة - يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الافراد إلى حد الآحاد.
وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.
* * * ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام (3) [الجن، كما يخرج عن عادة كلام الانس]. فهم يعجزون عن الاتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (4)).